حين يصبح العادي مدهشاً

حين سئلت نعومي شهاب ناي، الشاعرة الأميركية من أصل فلسطيني، عن الذين يشير إليهم مقطع من أحد قصائدها تقول فيه «الرجال الذين يكابدون ألماً عظيماً، تضيق به كل الأمكنة» قالت: «حين كتبت هذه الكلمات، كنت أفكر باللاجئين الفلسطينين، وفي سكان قرية جدتي، وفي أبي في حياته الجديدة.. وفي كل الناس في كل البلاد الذين فقدوا أشياء لا يمكن لأحد أن يدرك قيمتها ومعناها. «هذه الأشياء قد تبدو تافهة في نظر الآخرين، غير أنها تعني الشيء الكثير لصاحب الشأن.

والحقيقة أن الالتفات إلى الأشياء اليومية الصغيرة التي نتعامل معها كتوافه لا تستوقفنا هو أحد أهم مميزات كتابات ناي. فنجد مثلاً أن عروة الزر ورأس البصل وبن القهوة، وحتى خشبة تقطيع الخضار، هي مفردات في قصائدها تعرضها من وجهة نظر متميزة، تكسبها معاني قد لا تكون خطرت ببالنا من قبل، حتى قال عنها أحد النقاد إنها «تستخلص التبر من الأشياء العادية» ففي قصيدة «البصلة الرحالة» تقول ناي: «حين أفكر بالمسافات التي قطعتها البصلة «لتدخل في حسائي اليوم، أكاد أركع مثنية» على كل المعجزات الصغيرة المنسية».
ولدت الشاعرة عام 1952 في سانت لويس بولاية ميزوري الأميركية، لأب فلسطيني وأم أميركية، ونشرت أولى قصائدها وهي في الـ 7 من عمرها، وحين بلغت الـ 14، انتقلت مع عائلتها إلى القدس، ثم عادت إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث مازالت تقيم هناك مع زوجها وعائلتها. هوية الكاتبة العربية-الأميركية تتجلى بوضوح في كتاباتها التي تمازج بين الحضارتين والثقافتين بعفوية مدهشة، كما ساعدتها رحلاتها الكثيرة إلى دول آسيا وأوروبا وكندا والمكسيك ووسط وجنوب إفريقيا والشرق الأوسط، على الانفتاح على تجارب وثقافات الآخرين، فحاولت تسليط الضوء عليها وتقديمها للقارئ. كتبت ناي للصغار والكبار وحصدت أعمالها العديد من الجوائز الهامة. ومن بين الأشخاص الكثيرين الذين تأثرت بهم ناي، تبدو شخصية جدتها لأبيها هي الأهم والأبرز، فلم تفتأ تذكرها في مقابلاتها الكثيرة كما حمل غلاف ديوانها «كلمات تحت الكلمات» صورة لسيدة متقدمة في السن (الجدة) بالزي الفلسطيني الشعبي.

تقول ناي في قصيدة «كلمات تحت الكلمات» التي ترد في الديوان ذاته:
يدا جدتي تميزان أنواع العنب
واللمعان الرطب لجلد معزة جديد
لما مرضت تبعتني يداها،
أفقت من حمى طويلة لأجدهما
تدثران رأسي كصلاة خاشعة.
أيام جدتي خبز
من رق مستدير وخبز وئيد
تقف بجانب الفرن وترقب سيارة غريبة
تجوب الشوارع. لربما كانت تقل ابنها
الذي غادرها إلى أميركا – الأغلب أنها تحمل سواحاً
يركعون وينتحبون عند أضرحة غامضة
تدرك جدتي كم مرة يأتي البريد
وتدرك أنه قلما تصلها رسالة
حين تصل واحدة، تعلن أن معجزة قد وقعت
وتصغي لها تتلى مرة تلو مرة
في ضوء المساء الخافت
صوت جدتي يقول
لا شيء يثير دهشتها
أحمل إليها جريح طلق ناري وطفل
تعرف المسافات التي نسافر عبرها
والرسائل التي تعجز عن إرسالها، أصواتنا قاصرة
وستضيع في الطريق
وداعاً يا معطف الزوج
وداعاً للذين أحبتهم واعتنت بهم
الذين طاروا من يديها كبذور مضت إلى سماء عميقة
سيزرعون أنفسهم، وسيطوينا الموت جميعاً
تقول عينا جدتي أن الله موجود
في كل مكان
وحين تتحدث عن البستان
وعصر الزيتون الجديد
لما تروى حكايات جحا
وحكمه الحمقاء
يكون الله حاضرا في فكرها ما تفكر
فيه
هو اسمه
«أجيبي إن كنت تسمعين
الكلمات تحت الكلمات
وإلا فإنه مجرد عالم
أطرافه غير مشذبة
يصعب المرور عبره
وجيوبنا ملأى بالحجارة”

 

إلهام طه حسين

صحيفة العرب القطرية

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail