اغتراب المثقف / جبرا إبراهيم جبرا

تثار بين حين وآخر مسألة اغتراب المثقف بشكل أو بآخر، فهو قد يكونُ مغترباً بغيابه عن الوطن، وقد يكونُ مغتربا وهو في قلب الوطن، قد يغتربُ بنفي نفسه عن وطنه طائعاُ ، لاختلاف سياسي مع بلده، وقد ينفي نفسه لأسباب اجتماعية، لأنه ما عاد ينسجم مع تقاليد وأعراف بلده، مهما تكن أوضاعه السياسية، هناك من يغترب بسبب من حسه القوميّ، بقدرِ ما هُناكَ من يطلب الفناءَ في وطنه بسبب ذلك الحسّ بالذات.

وإذا كان الاغترابُ بارزاً وأليماً بالغياب الجسديّ عن الزطن، فهو قد يكون أشدّ بروزاً وأملاً بالحضور الجسديّ في الوطن نفسه. وإذا كان هذا كله ينطبق على العديد من المثقفين في أقطار العالم المختلفة، ما تقدم منها وما تخلف، فإنه ينطبق بصورة خاصة على العديد من المثقفين العرب في فترة من أصعب فترات التاريخ العربي، وأشدها تمزيقاً للنفس تحت الضغوط المتناقضة، سياسية كانت أم اجتماعية.

لماذا يشعر المثقف في الوطن العربي أنه في طليعة مجتمعه المتغير، ويشعر في الوقت نفسه أنه غريب عنه، مهما تبنى طموحات هذا المجتمع وكرس نفسه لرغائبه؟ لماذا يشعر المثقف أن طاقته مهدورة وأنه في خضم القوى المتنازعة داخل مجتمعه بات هو الأقل شأنا من هذه القوى كلها، وأن نفوذه ف ي ما يحيط به ليس إلا وهما آخر يدفه إلى القطيعة مع محيطه؟

هذه الغربة الداخلية تتحم به أول الأمر، فتشحذ خياله وقلمه، وتدفعه إلى التعبير وربما الإبداع، ثم تدفه إلى اتّخاذ موقف الحادّ إيماء أو صراحة، ويتلون كل ما يكتب وكل ما يفكر به بهذا التشبث بالرأي، وقد تدفه هذه الغربة إلى التمرد، والقلم ما زال بيده. ولكنها بعد حين تتحكم به على نحو لا قبل له به، فتدفع به دفعاإلى الخارج، إلى أي مكان قائم جغرافياً خارج حدود الوطن ، وقد سقط من يده، فكأن الاغتراب أضحى قوة أخرى غامضةً تريد ستر نفسها، أو تمويه ذاتها، ليتم تبرير الاغتراب حين يتحول إلى غربة حقيقة.

 

من كتاب تأملات في بنيان مرمري / جبرا إبراهيم جبرا

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail