الأعمال الشعرية الناجزة لعلي الخليلي / محمد حلمي الريشة

نشرت هذه المقالة في الحياة الجديدة قبل وفاة الشاعر الفلسطيني المميز علي الخليلي بأسبوعين

“أكتب هذه الكلمة عن الشعر، بعد أن ضربني السرطان في عمودي الفقري، وألقى بي طريحا في الفراش بأوجاعي المتفجرة، على مدار الساعة، مع قلة حيلتي في السيطرة على احتياجاتي الطبيعية.”

هكذا يبدأ الشاعر والباحث الفلسطيني الكبير علي الخليلي كلمته فاتحة لمجلدات أعماله الشعرية الناجزة الثلاثة، التي خطها تحت عنوان: “تحت قوس النار والشعر”، والتي صدرت مؤخرا عن “بيت الشعر – وزارة الثقافة” في فلسطين، وبتمويل منها، وبمساهمة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (إلكسو) عبر اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم.
ويضيف: “هل ستختلف هذه الكلمة تحت قوس النار،عن سواها مما سبقها من كلمات حيث كنت فيها، بكامل صحتي، في هذا الشأن بالذات؟
للوهلة الأولى، تبدو مسألة الاختلاف محتومة. فالكتابة من داخل زلزلة الوجع والعجز والفقدان، لا بد لها من أن تختلف عن الكتابة من فوق مكتب مريح، مع جسد مطمئن، لا يتمزق بكل أوصاله الملتهبة، ما بين حرف وآخر.
مع ذلك، تراجعت هذه الوهلة، أو هذه الحتمية إلى الخلف، مفسحة المجال أمام تأكيد مغاير، ما يعني أن الكتابة عن الشعر تحديدا، في هذا السياق، تتكرس بقوتها الإبداعية، من خلال الشعر ذاته، مهما كانت الحال التي تحيط به، مرضا أم صحة، وأقواسا من النار، أم أقواسا من الحرير. نتذكر في هذا المعنى، بدر شاكر السياب وهو يبدع كل أشعاره الجميلة، برئتين متهالكتين بالسل. ويرحل عن الدنيا، وهو على رأس الصبا والشباب الذابلين. ونتذكر أبا القاسم الشابي صاحب “إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر”، و”سأعيش رغم الداء والأعداء، كالنسر فوق القمة الشماء”، وهو يغادر الدنيا شابا في العقد الثالث من عمره، بمرض السل، أيضا. ونتذكر إبراهيم طوقان مبدع نشيدنا الوطني “موطني”، و”الثلاثاء الحمراء” وهو يغادر قبل تمام الأربعين من سنوات عمره، بمرض سرطان المعدة طوال معظم هذه السنوات.
توافقت مع هذه المحصلة، من خلال تجربتي الشخصية. أنا فيها أنا نفسي، لم أجد في المرض ما يقدر على مصادرة إرادتي في خلق الشعر. على العكس، وجدت فيه ما يعزز هذه الإرادة على الخلق والإبداع. ومع أن المشهد الذاتي كاد أن يهتز قليلا، أثناء الصدمة الأولى لضربة المرض، تحت وقع الألم الجارف الذي يشوش إمكانات التفكير، كما يدفع بالرؤى إلى الاضطراب والتبعثر، إلا أن تجاوز الصدمة إلى الإقرار بما حصل أولا، ثم تحشيد الذات ثانيا، لمواجهة هذا الحاصل والتغلب عليه، أو التعامل معه على الأقل، بقوة ضد الانكسار تحت ثقله، أعاد حركة التشكيل للمشهد، على ركائزها المفصلية، بحيوية واقتدار.
هل يمكن لي بالتالي، أن أضع “الشعر” في مواجهة المرض”، على قاعدة وجدانية وبيولوجية في آن، من الصراع بينهما، من جهة، وقاعدة تقطير الوجع المتحصل من هذا الصراع، وإعادة إنتاجه بالكلمات، من جهة ثانية، أكان هذا المرض هو السرطان أم السل أم سواهما، وأكان هذا الشعر من صناعة هذا الجيل، أم صناعة عدة أجيال؟
أعتقد أنها إمكانية متاحة، ولعلها في وضع الضروري لها. فالمرض جزء من الحياة. والشعر يتجاوز الجزء إلى الأجزاء كلها. أي أن الشعر هو الحياة، معها وإلى جانبها، ومن أجل نفخ الروح فيها، جيلا بعد جيل، وبث الحب والفرح والتحدي في جنباتها، في الوقت الذي يعمل فيه المرض على العكس المدمر من هذا كله، وضد هذا كله.
الشعر، بهذه الصورة أو تلك، هو الحياة. وطالما أن المرض جزء منها، فإن الشعر وحده هو القادر على التعامل معه، والتصدي له بإرادة الحياة ذاتها، وإصرار هذه الإرادة على الخلاص منه. مع ذلك، نحن نموت بفعل المرض، وبفعل سواه (تعددت الأسباب والموت واحد). فهل الموت انتصار؟ هل المرض انتصار؟ الواقع، أن الموت نهاية تلقائية للأجساد. أجسادنا تمرض وتتهالك وتموت، في الوقت الذي يبقى فيه الشعر، ويبقى الشعراء. الشعر هو الانتصار. والشعراء لا يموتون. من المتنبي إلى محمود درويش.
من الموت في هذا البسط،، تصعد الحياة. ومن المرض في شبكة تحولاته، يصعد الوجود الإنساني، إلى التحدي.”
تحت عنوان: “تحت قوس النار واصطلاء الفرح- علي الخليلي.. سادن الحركة الثقافية في الأرض المحتلة”، يكتب الشاعر مراد السوداني، كلمة معبرة جدا، أحاطت بجوانب كثيرة تتعلق بالشاعر والباحث الخليلي. نقتطف منها باضطرارنا لضرورة الخبر: “الكتابة فرح”
هكذا بدأ علي الخليلي.. قولة بحجم الشعر والإبداع، وأصر عليها حتى اليوم مؤمنا أن الشعر انفتاح على الأمل، وانشباك حلم، والكتابة فيوضات ضوء ساطع يتجدد ويتمدد في الروح المبدعة حقل فراش وغيم مطير وغناء حجل بري ورشاقة غزالات البر.
“الكتابة فرح” ثيمة الشاعر العنيد الذي واصل الطريق المر بقلب مضيء شفاف يعبر الظلمة وشظف اللحظة باقتدار وهبوب إبداعي مكين.
“الكتابة فرح” قولة تسند الروح من النكوص والتردي المريب.. وتوسع مدار الرؤيا بما يجعل الشعر فعلا كالعشق والقتال والقنص في البر والحرث المقدس وملاعبة فراش الحقل وسنبلات الماء .
تعجل علي الخليلي الفرح لأنه يعرف فاعليته الخضاء وشمسه المهيمنة ونداءاته البعيدة.. تعجل الفرح في أشد اللحظات إظلاما وفتكا ووجعا واغترابا، وآنس الفعل جوهرا الكلام الفعال..” ونقتطف كذلك: “أي أبا سري.. وأنت تواصل ديمومة الإبداع ودفقه العميم، تحفر عميقا في طبقات الوعي الثوري بما يجعل الثقافة حاضرة وتشق الجفاف بعناء ماء الكلام وهبوه الباقي والأكيد.. منحت الثقافة الفلسطينية الوقت باتساعه، وأعطيت للأجيال فضائل الكبار، فصرت “توحيدي” الأرض المحتلة، مؤانسة للمعرفة وإغناء للمشهد الثقافي بما قدمته من تجريب كتابي، وفتحت “شرفات الكلام” على “جدلية الوطن” “لتمضي نابلس إلى البحر” وتغتسل بزرقة الغيم وإيقاعه الصعب. ليصعد “الضحك من رجوم الدمامة” على الرغم من أن “الحلم مازال محاولة خطرة”، وحفرت بإبرة القلب كتابة “بالأصابع المقيدة” لتهتف عاليا: “القرابين إخوتي”. وتصرخ في برية العتمة معلنا: “تكوين للوردة”، وترفع قلب اللغة بصداح شرس: “هات لي عين الرضا.. هات لي عين السخط”.. حتى “تدور المفاتيح في الأقفال” إيذانا بعودة الطيور إلى أعشاشها، والنساء إلى نبع الماء، والرجال إلى الحصيد السماوي وزفات البيادر وسهرات العلالي ومساطيح البلاد. وها أنت تفعل كل ذلك بوثوقية أبي حيان في اصطلاء الشعر وكدح العارفين. تتقزم بين عينيك مناصب الأدعياء والناهبين، وتجار الحرف والحرفة، وترضى لنفسك بيتا في أعالي الغيم والرمان، هو مكانك الأتم والأبهى تنفتح منه على العالم بما يتسرب من كلام بهي عفي.. وتظل “وحدك ثم تزدحم الحديقة”.. تنازل العتمة في حكاية تحمل أنساغ الوجع المثمر والتأمل الرحيم ليكون ثمة “ضوء في العتمة” تندلع “شرفات الكلام” بشعرية طافحة.”
ويختم كلمته حول هذا الإنجاز الذي تفتق أخيرا عن خروج “الأعمال الشعرية الناجزة” للشاعر الخليلي: “.. ونحن إذ نفرح بك ومعك بإطلاق عطاياك الشعرية الناجزة، نضع قندول الجبل ونرجسة النبع وأقحوان الوعر على فعالك البيضاء إعلانا لانتصار الشعر على القبح والإظلام والغياب والتغييب المريب.. نطلق الفعال الشعرية لتأخذ الأجيال الشعرية الطالعة كلاما سائغا، وشعرية رانخة بتفاصيل البلاد والفجر القادم والفرح بالطريق وانتصار الشعر على الألم والحزن.. واقتراح الربيع في منازلة اليباس والجفاف الكالح.”
أما كاتب هذه السطور، والذي كان الشاعر علي الخليلي معلمه في بداية رحلته الشعرية، فقد كتب شهادة له بعنوان: “شهادة لا تطيق اكتمالها- علي الخليلي.. خازن الأدب في خوابي القلب”، في ثلاثة مقاطع نقتطف منها مطالعها:
“لا أدري كيف أبدأ إليك؟
كما لو أن الكتابة انتعلت حذاءها وفرت لتتركني حافيا!
كما لو أن الكلام ارتطامي بوسادة خالية!
كما لو أن الحروف لم تخلق، بعد؛ حروف الأبجدية!
كما لو أنني ما زلت غضا كالزغب؛ فلم أمش رصيفا نحيلا في نابلس، ذات يوم، فأرى “مكتبة وطن” هائلة بك وبدخانك. ولم أقتحم، خجلا، بابها اليرتجف كلما مرت سيارة بوحشية الجهل. ولم أنظر، خلسة، إلى “الأصابع المقيدة”، قبل أن أسلم على شقوق كفها المحشوة برائحة الفرن في “الياسمينة”. ولم أجلس على كرسي وسعني لدرجة أن حافته استراحة التوتر في هواء الرئتين. ولم أسأل إن كنت هو “الفجر الأدبي” الذي تحرر؛ إذ لم تكن صحفها منشورة داخل الحيز المقوس للمكان. ولم أقدم نفسي إلى سؤالك التعرف الغائب. ولم أسمع صمت إنصاتك لي وأنا أقرأ عليك من كراسة مراهق حالم. ولم أنصت إليك بكل شغف/ شهية/ شهوة، لطيب كلامك المعلم، من معلم، يخرج من بين الشفة العليا، المكسوة بشارب كثيف يكاد يخفيها، والسفلى المائلة للسمرة من كثير الدخان. ولم أعمل بنصحك أن أقرأ “الإشارات الإلهية” لشيخنا الناري/ الحراق “أبي حيان التوحيدي”. ولم… ولم… ولم… ولا أدري كيف أستمر إليك؟ ما زالت الذاكرة تطلع لي ما قلته ذات يوم بعيد بعيد: “الكتابة فرح”. لكنك أيها المثقف فينا/المتألم منهم، لم تقل: أين؟ ولا أريد: كيف؟ ومتى؟ ومن؟ إذا كانت الكتابة سبب فرح، فهل القراءة عكسه؟ إنها كذلك لأحد سببين، أو كلاهما معا؛ الأول: لأن القراءة باتت مهجورة جدا عند أمة “اقرأ”. والثاني: لأن القراءة فعل تنويري/ تثقيفي/ كاشف/ فاضح لا تغطى فضيحته بورقة من كتاب.ولا أدري كيف أنتهي إليك؟ أتدري، أيها العصي على أصابعي لتشكرك، كأنك مانعها بامتنان! كيف أشكل “شكرا” مغايرا يليق بلقائك السخي؟ ها أنا أفشل مرة أخرى وأخرى، فأمقتني بحنان، كي لا أجرحك بعقاب ذنبي.
كيف أفشل، وأنت الذي حين حكيت لك عن معلم التربية الدينية (كنت طالبا في الصف الثالث الإعدادي) الذي أخرجني ست حصص متتالية، بعد أن كان قرأ “أولى قصائدي” وما هي بقصيدة طبعا، غزلا، وقد نشرت في جريدة أحضرها إلى الصف، كيف علمتني، بكل أبوية المعلم، أن الشعر عدو المباشرة، وأن له لغة لا يعرفها إلا الشعراء، وأنه يجب أن يكتب بها مهما كانت عادية الموضوع أو كان ذا قداسة،وضربت لي أمثالا عدة أبرزت لي فيها أن لا منطق في الشعر، وأن الحقائق يمكن إعادة صياغتها بمخيلة الشاعر بلغته الشعرية التي يبتكرها له. وقد عدتك بعد عدة أيام بقصيدة جديدة بعد أن استوعبت كلامك، ونشرتها لي صفحة “الفجر الأدبي” بعد أن كنت تنشر لي تشجيعا في زاوية “الضوء الأخضر”، إيذانا بالعبور. من يومها وأنا أهتم بلغتي الشعرية عبر إثراء ابتكارها، على الرغم من اتهامي بالغموض والإبهام، و”الشعر الزئبقي” من أصدقاء كتاب أنت تعرفهم مثلي.”

 

عن الحياة الجديدة

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail