التحولات الفلسفية نحو بعد ما بعد الحداثة / أماني أبو رحمة

يميز كيفين فانهوزر الحداثة عن ما قبل الحداثة بالإشارة إلى ما عدّه الفلسفة الأولى First Philosophy لكل منهما. يرى كيفن فانهوزر أن فلسفة ما قبل الحداثة الأولى كانت ميتافيزيقية، إلا أن كل شيء تغير في الطريق من التنوير إلى الحداثة. ذلك أن الموضوع الجوهري المرتبط بالحداثة هو الابستومولوجيا وبالتحديد طبيعة وإمكانية المعرفة (1).
مهد التنوير لحالة الحداثة التي مثلت تحولا فلسفياً وعلمياً. وقد ارتكزت أسس الفلسفة الحداثية على أفكار رينيه ديكارت (1596-1650) الذي يعد أب الفلسفية الحداثية. إذ فضلاً عن تحويله الفلسفة من الميتافيزيقيات إلى الابستومولوجيا، وضع ديكارت أسس المعرفة الحداثية من خلال اهتمامه بطبيعة المعرفة وطرق الحصول عليها. فبالنسبة لطبيعة المعرفة كان ديكارت واضحا في سعيه نحو نموذجاً كونياً للمعرفة، ليس بمعنى ما هو الصحيح بالنسبة لكل شخص فحسب، ولكن بمعنى ما هو الصحيح بالنسبة لكل مساحات المعرفة (2). قادت مناقشات ديكارت إلى استنتاجه أن مبادئ هذه المعرفة يمكن أن توجد في العلم فقط. اهتم ديكارت بالوصول إلى معرفة أكيدة وثابتة وغير قابلة للتشكيك وقد وجدها فقط في علوم الهندسة والحساب ولا يمكن الوصول إليها إلا بالتجربة والاستنتاج. وأخيراً فقد شكك ديكارت بالمعلومات التي تصل إلى المرء من الآخرين. وهكذا فان تحول ديكارت إلى الذات كان حاسما حين وضعنا في صورة الفرد العارف الذي يرفض المعرفة ،عدا تلك التي يمكنه أن يتحقق منها بنفسه (3). أشار ديكارت إلى أن هناك اثنين فقط من أفعال الفهم والفكر Intellect يمكننا من خلالهما الحصول على الحقيقة : الحدس والاستنتاج. والحدس هو مفهوم ( المقدرة العقلية Mind الخالصة واليقظة ) الناشئ فقط عن العقل Reason، في حين أن الاستنتاج مستمد بالضرورة من حقائق أخرى معروفة ومؤكدة. وبتفضيله للحدس أو للمعرفة البديهية على الاستنتاج، عرض ديكارت الجانب الأساسي للابستومولوجيا الحداثية وهو الأُسسية Foundationalism التي تعتمد على علة أولى لا تقبل التشكيك والبحث عن إثبات. وبتطبيق شكوكه المنهجية توصل ديكارت إلى ما أطلق عليه ( الذات المفكرة المستقلة Autonomous Thinking Self ) ونتيجة لذلك فان كل البديهيات المميزة والواضحة عن تلك الذات تكون صحيحة بالضرورة (4).
وهنا لا بد لنا من تأكيد الدور الأساسي للعقل في منظومة الابستومولوجيا الحداثية، وذلك لأنه مصدر الحدس والبديهة التي هي ـ كما يقول ديكارت ـ أساس الأفكار الواضحة والمتميزة والصحيحة. كان مفهوم التنوير عن العقل أنه مجرد قدرة بشرية تقوم بتنظيم وتحليل وتقييم الأفكار ولكن الحداثة تجاوزت هذا المفهوم إلى المفهوم الرواقي للوجوس Stoic concept of logos (5) الذي يرى أن الحقيقة تمتلك تركيباً وترتيباً يظهر بوضوح في اشتغالات المقدرة العقلية البشرية، وتبعا لتلك النظرة فان القدرة العقلية قد وهبت أفكارا فطرية متأصلة، وأن هذه الأفكار ترتبط بطبيعة وتركيب الحقيقة بطريقة أو بأخرى. الأمر الذي أدى إلى الاعتقاد بالعقلانية الموضوعية للحقيقة والثقة بقدرة الإنسان على اكتساب معرفة بالنظام التأسيسي للكون. رفض جون لوك (1632-1704) فكرة الأفكار الفطرية وجادل بأن جميع أفكارنا تنطلق من التجربة، إما الإحساس أو التأمل والتفكر. ولكن حتى في هذا الرفض، فان لوك لم يغادر الأُسسية التنويرية لا من الناحية الشكلية ولا الجوهرية، ذلك انه ـ وبدلا من الاعتماد على المبادئ الأولى الغير قابلة للشك والمشتقة استبطانياً كما عند ديكارت ـ يدعونا للبدء من التجربة الحسية. يوظف التجريبيون العقل بصورة آلاتية ذرائعية، في حين أنه بالنسبة للعقلانيين هو مصدر المعرفة. ومع ذلك، فإن ما لدينا هنا هو الفجوة بين الأُسسية العقلانية (ديكارت، سبينوزا، ليبنتز)، والأُسسية التجريبية (لوك، هيوم، بيركلي) الأمر الذي أدى إلى مناقشات حادة بلغت ذروتها في فلسفة عمانوئيل كانط (1724-1804).
كانت مساهمة كانط الأساسية في دمج الأُسسية العقلانية والتجريبية. يمثل فكر كانط في الابستومولوجيا لحظة ثورية في تاريخ الفكر الغربي. فقد أعفت التسوية التي حققها كانط الفلسفة الغربية من التشكيكية التي ولدتها انتقادات هيوم. ولا بد أن نلاحظ أن تلك التسوية الكانطية أكملت تحول التنويرية نحو الإنسان. فقد أعلى كانط حالة الشخص المفكر من خلال إظهار دوره الفاعل في تكوين المعنى. فالحدس والإدراك الحسي يعملان معا في تكوين المعنى. وتبعا لذلك فانه يمكن القول أن نظرية كانط في الإدراك المعرفي كانت لإظهار أن المعرفة هي نتاج عمليات موحدة من الملكات والبديهيات (الكائنات المدركة ) والمفاهيم ( ابتكارات العملية العقلية ) (6). بهذه الطريقة، تمكن كانط من أن يظهر أوجه التكامل بين الرؤى التجريبية والعقلانية. من ناحية أخرى، كان كانط قادرا على تحقيق هذا التوليف Synthesis على حساب إنكار القدرة التركيبية للشخص على إدراك النومينون : الشيء بذاته Noumenon ، وهو ما يمثل الحقيقة الأساسية للشيء التي تكمن أسفل الظواهر العارضة.. فالإدراك المعرفي مرتبط بعالم الظواهر. وبهذا التمييز، زرع كانط بالفعل بذور اللا -اسسية Nonfoundationalism التي تطورت لاحقاً (7). وعليه فانه يمكننا تلخيص المبادئ المعرفية الحداثية على النحو والتالي:
1. العقلانية الموضوعية Objective rationality : إن التركيب المنظم للطبيعة يدعو لعرض قوانينها. ويعني التوافق بين العقل وقوانين الطبيعة أن بعض معرفة معينة وموضوعية ستكون ممكنة من خلال القضاء على العوامل الذاتية والشخصية من عملية المعرفة. وقد تكون مثل هذه المعارف معروفة وصفيا، والحقيقة هي التي تمثل المعرفة الموصوفة بدقة، وبالتالي فان الحداثة تفضل نظرية (الحقيقة المتطابقة the (correspondence theory of truth .
2. المرجعية Referentialism: وتتضمن المقاربة الوصفية الحداثية وجهة نظر معينة من اللغة، ذلك أن الحداثة ترى أن اللغة تمثيلية. بمعنى أنها، تشير إلى، وتمثل حقائق الواقع. وهكذا يشترك لوك والذريين المنطقيين logical atomists في النظرة المرجعية للغة (8).
3. الانسجام والتجانس Harmony : والنتيجة المنطقية للتركيب العقلاني للحقيقة هو مبدأ التجانس والانسجام. ويرتكز هذا الانسجام على تركيب منظم وعقلاني شامل للكون. وتتضمن فكرة التجانس حكما قيمياً على المعرفة بمعنى أن المعرفة جيدة وتحقق تقدماً مطرداً.
4. الاستقلالية الفردية : Individualistic autonomy : احتفت الحداثة بالفرد العارف بوصفه نموذج عملية المعرفة. ومن جهة أخرى فان الاستقلالية لا تعني انعدام القوانين لان قوانين الطبيعة الكونية مفترضة مسبقاً. وبالتالي فان الاستقلالية الفردية تفرض على الأفراد التزاما ابستومولوجيا وفكرياً يقيمون بموجبه الحقيقة بأنفسهم.
5. الأُسسية Foundationalism : تتناول الأُسسية بنية المعرفة القابلة للتعليل : بمعنى أن كل المعتقدات مبررة من خلال البناء على قناعات تأسيسية راسخة لا تقبل الشك.
6. الاختزالية Reductionism : وهي إستراتيجية لا تعنى بتحليل الشيء إلى أجزائه فحسب، ولكن أيضا بشرح خصائص وسلوك الشيء وفق خصائص وسلوك أجزائه في مجال العلوم، يتجلى مفهوم الاختزالية في فكرة اختزال العمليات البيولوجية إلى مجموعة من التفاعلات الكيميائية، والتي يمكن بدورها أن تختزل إلى المواد المتضمنة في التفاعلات. وقد أدى ذلك إلى التسلسل الهرمي في مجال العلوم ابتداءً من الفيزياء (ابسط المستويات ) صعودا إلى مجالات أكثر تعقيداً مثل علم الاجتماع. والافتراض الميتافيزيقي الحاسم المتضمن في هذه النظرة إلى العلوم هو أن أجزاء كيان أو نظام ما تحدد خصائص وسلوك النظام ككل وليس العكس ـ وفقا لنانسي مورفي ولم تقتصر طريقة التفكير هذه على العلوم، بل تعدتها إلى الأخلاق، والنظرية السياسية، ونظرية المعرفة، وفلسفة اللغة، وغيرها من المجالات التي تأثرت بالافتراضات الاختزالية (9) .
وهناك أمر لا يقل أهمية عن المبادئ الابستمولوجية السابقة في دعم مشروع التنوير. فقد وجدت الثورة الابستمولوجية التي بدأها ديكارت ثورة مناظرة في الاستكشافات العلمية لإسحق نيوتن (1642-1727 ).

الميتافيزيقيات الحداثية :

وعلى الرغم من أن أسس الحداثة ابستمولوجية بالدرجة الأولى، إلا أن الاهتمام بالأسئلة حول طبيعة الحقيقة ظل ملحاً. فقد تساءلت الحداثة عن طبيعة الحقيقة الفيزيقية. وقد حاول نيوتن أن يفعل في العلوم ما فعله ديكارت في الفلسفة وذلك بوضع ما يمكن أن يطلق عليه الأُسسية العلمية. ويرى نيوتن أنه يمكن وصف النظام الطبيعي للطبيعة رياضيا. ومن الواضح أن للنهج النيوتيني تأثيراً ضمنياً يتعلق بطبيعة الحقيقة المادية التي تقول بأن العالم يتكون من جزيئات صلبة ثابتة وغير قابلة للتدمير تسمى الذرات. وهي كائنات من الخبرة الحسية تعد انفصالاتها وتحركاتها مسئولة عن التغييرات التي يمكن ملاحظتها في الطبيعة، وتبعاً لذلك كانت وجهة النظر الميكانيكية في الفيزياء الكلاسيكية الحداثية. وضعت أفكار نيوتن عن طبيعة الحقيقة أسس الفيزياء النيوتونيية التي سادت مرحلة الحداثة. وبالنسبة لطبيعة الحقيقة المطلقة، فعلى الرغم من أن الفلسفة الحداثية أظهرت ميولا نحو التعددية، إلا انه يمكن القول أنها كانت واحدية في الأساس. ذلك أنها رأت الحقيقة واحدة بوصفها : عملية، وبناء، ومادة.
وقد جاءت فلسفة هيغل المثالية Idealism التي رأت العالم بوصفه تجلي روح شاملة تصور ذاتها لتؤسس لواحدية ميتافيزيقية حداثية. وهيغل ـ كما يقول هابرماس ـ هو أول فيلسوف طور مفهوما واضحا عن الحداثة (10). وفي إدراكه الواحدي للحقيقة والإنسانية ووعيها الذاتي (الذي رأى انه يميز الإنسان عن الحيوان ) يرى هيغل أنها نتيجة تحفيز الروح لتعرف ذاتها. ولكن هذه الروح لا يمكن اعتبارها مفصولة عن البشرية. ذلك لان كل شيء هو جزء من الكل. وفي الأساس فان الوعي الذاتي هو نتيجة التاريخ، الذي ترشده الروح، التي هي جزء من البشرية التي هي جزء منها أيضا في الوقت ذاته. وهكذا، فإن دورة ونتيجة التاريخ هي جزء من حرية الإنسان والبشرية. يؤمن هيغل بأن كل الأشياء الحقيقية في العالم هي في نهاية المطاف واحدة ويقول “إن كل ما هو عقلي متحقق بالفعل، وما هو متحقق بالفعل عقلي” (11)، وفق هذه المعيارية الإطلاقية يتوقعن العقل، أو قل يتحقق بالفعل في الطبيعة والتاريخ والوعي، وهو بذلك يبسط سيطرته على العالم وما فيه من أشياء، وتشكل هذه المقولة نقطة الانطلاق في الفهم الهيغلي للعقل. ويفضي هذا الفهم إلى سلسلة من التمثلات، يغدو وفقها تاريخ العالم عبارة عن تمثل لمسار العقل، لأن المفهوم الذي ينهض عليه ليس سوى أن العقل هو جوهر،وقوة لا متناهية، يكمن مضمونه وراء كل من الحياة والطبيعة والروح. إن كل وجود حقيقي يستمد وجوده وكينونته من العقل، بوصفه جوهراً كونياً، يمنح البقاء والاستمرار لكل ما هو واقع حقيقي في العالم، وهو المعبر عن ماهية الأشياء وكامل حقيقتها، ويمنحها القوة المطلقة، بل ويمنحها الحياة أيضاً (12).
إن الحد الذي وصلت إليه الحداثة في تفسير الكينونةBeing بوصفها خلوداً Timeless، يجعل من المقبول تماما القول بأن ديكارت كان واحدياً من حيث الجوهر , بالرغم من ميوله الاثنينية الواضحة (13). إن كوجيتو ديكارت الذي افتتح به القول الفلسفي للحداثة، دليل على واحديته حين جعل الذات مركزاً ومرجعاً، بوصفها عقلاً وإرادة.

الأسس الفلسفية لما بعد الحداثة:

ربما كان التحديد الذي حظي بما يشبه الإجماع لما بعد الحداثة هو أنها ضد الحداثة Anti-modern. وبذلك يمكننا القول أن ما بعد الحداثة قد نبذت الأسس المعرفية والميتافيزيقية التي قامت عليها الحداثة .
فمن الناحية المعرفية، رفضت ما بعد الحداثة سعي التنوير نحو المعرفة الموضوعية وما يترتب عليها من أُسسية ومرجعية (14) . وتمثل هذا الرفض في أسس مشروع دريدا التفكيكي: وهو منهج تحليل للنصوص ينطبق على جميع الكتابة ـ والفلسفة ليست أكثر من مجرد كتابة ابداعية ـ ويسعى من خلال سلسلة من الاستراتيجيات المثيرة للجدل إلى الكشف عن عدم استقرار المعنى المتأصل وإبهامه وعدم وضوحه . واحد من أهدافه الرئيسية هي لفت الانتباه إلى الخاصية النصية التي لا مفر منها في جميع الكتابات الفلسفية، والتي يحاول معظم الفلاسفة إنكارها ، معتبرا إياها حجة خالصة Pure Argument. إن أفضل السبل لمقاربة التفكيكية هو بوصفها شكل من أشكال التشكيك الجذري Radical Scepticism وضد الأُسسية Antifoundationalism .
اتخذ دريدا موقفاً معارضا من الفلسفة الغربية منذ أفلاطون بسبب التزامها غير المقبول بـ ميتافيزيقيا الحضورMetaphysics of Presence ، والاعتقاد بأن المعنى مستقر أساسا، ومحدد ويمكن إدراكه في مجمله. وبهذا المعنى فان الفلسفة الغربية متمركزة حول اللوغوس logocentrist : فكرة أن الفهم والمعنى يمكن أن يُمنح نقطة مرجعية ثابتة من خلال تأسيسه في اللوغوس , أو في سمات ثابتة أو مبادئ للحقيقة ، وبكلمات أخرى في الحضور (15) . رفض دريدا فكرة التمركز حول اللوغوس، وبذلك فان التفكيك يبدأ عمله بالتخلص من مركزية العقل في وظيفة اللغة. وبذلك جنحت ما بعد الحداثة نحو المذهب الكلي Holism الذي لا يرى المعتقدات مرتكزة على أسس متينة ولكنها مدعمة بفضل علاقاتها بمعتقدات اخرى، وبالكل في نهاية المطاف .
وضع لويلارد فان أورمان كواين (1908-2000) نموذجا ابستومولوجيا يقول بأن الحقيقة الواعية تدرك بوصفها شبكة من خبرات متداخلة. وفي شبكة الخبرات المتداخلة هذه، تتعزز الأفكار المشتركة وتترابط لدعم بعضهما البعض بطريقة تعطي بعض الأفكار أسبقية في تماسك الشبكة (16) . ومع الكلانية فان أيا من المعتقدات لا يمكن إلا أن يكون قابلا للتنقيح والتعديل . وبكلمات مورفي فان ” المعتقدات تختلف فقط باختلاف بعدها عن الخبرة ، التي تمنح (شروط حدود ) المعرفة” (17) . وهكذا فان سمات المذهب الكلي هي : التعددية Plurality ، والمنظورية Perspective ، والقابلية للتعديلCorrigibility ، والعملاتية Process (18) .
وهناك تحولات ابستمولوجية أخرى وصمت ما بعد الحداثة نذكر منها :
أولا : التحول من الاهتمام بالمعنى بوصفة مرجعية إلى الاهتمام به بوصفه توظيفاً . فقد وضعت أعمال لودفيج فيتجينشتاين، وجون لانغش، واوستن الأساس لفلسفة جديدة في اللغة . تأثر فيتجنيشتاين في بداياته بالوضعية المنطقية : بمعنى أن اللغة تعين الحقائق . ولكنه عاد فيما بعد ليفسر اللغة على غرار الألعاب . كل توظيف للغة يشكل لعبة بقوانينها الخاصة. وهكذا فان الجملة تحتمل العديد من المعاني تبعاً للسياقات التي يجري توظيفها فيها . والمعنى هو دالة دور اللغة في نظام الاتفاقيات : التطبيقات والاداءات اللغوية وغير اللغوية . والنتيجة أن المعنى سياقي ، وأن اللغة لا تهدف بالضرورة إلى حالة الحقيقة الموضوعية للظاهرة .
ثانيا ً: التشكيك في السرديات الكبرى (19)، بمعنى التخلي عن سعي التنوير إلى معرفة شاملة على أساس العقل (20) . تعد قضية السرديات الكبرى في بعد الحداثة قضية هامة خصوصا عند مقارنتها بالحداثة التي احتل فيها العقل مكانة جليلة وكان له القول الفصل في تحديد أو استبعاد ما يمكن أن نطلق عليه معرفة . وبذلك فان العقلانية التنويرية هي التي حددت السرديات الكبرى . ولكن ما بعد الحداثة زعمت أن كل المعرفة البشرية مسيقنة ومحلية وخاصة تاريخياً، مما أدى إلى تطوير ما يطلق عليه الأطروحة السياقية Contextual thesis (21). ويري ألن ديوجين أنه ـ وفي ظل فرض حظر على جميع السرديات الكبرى ـ فإن الاستنتاج الذي لا مفر منه هو أن “كل فهم للحقيقة لا يكون إلا بدلالة التاريخ والثقافة” (24). علاوة على ذلك ، يلاحظ ديوجين ” أن هذه النسبية قوية وفاعلة لدرجة أننا لا نبني فقط حقيقة مختلفة باختلاف العصور والمجتمعات فحسب ، ولكننا لن نقوم بأي شيء حيال محاولة كل فرد بناء حقيقته بطريقته الخاصة ” (22) . ومن الواضح إذا أن نتيجة هدم السرديات الكبرى التي لا مفر منها هي التعددية .

الميتافيزيقيات في ما بعد الحداثة :

تتمثل الحداثة ميتافيزيقيا بما يمكن أن نطلق عليه الميتافيزيقيات المضادة للحقيقية Anti-realist metaphysics . بمعنى أنها الرأي القائل بأن وجود الأشياء، يعتمد على التفكير والخبرة واللغة (23). وبعبارة أخرى ، فإننا لا نواجه عالماً معطى ببساطة، ولكننا نواجه عالماً نركبه بنشاط عن طريق استخدام مفاهيم نأتي بها إليه (24). ويمثل هذا الرأي رفض لمفهوم الجوهرية الفلسفي Essentialism، الذي يقول بأن هناك بعض المعاني المثالية. وقد عرض دريدا رفضه للواقعية Realism أو الجوهرية Essentialism في سياق فكرته من الاختلاف . فالواقعية أو الجوهرية تتطلب ـ من الناحية الفلسفية ـ مركزاً. وقد فُسر هذا المركز في تاريخ الميتافيزيقيا بشكل مختلف من قبل أنظمة فلسفية مختلفة. ولكن دريدا ، الصوت الأبرز فكرياً في ما بعد الحداثة ، يرفض فكرة وجود مركز ويلاحظ أنه “من الضروري ـ من الآن فصاعدا ـ البدء في التفكير أنه لا يوجد أي مركز، وأنه لا يمكن أن نفكر في المركز بوصفه شكلاً من الكينونة الحاضرة Present-being ، وأنه لا يوجد للمركز أي مكان طبيعي ، وأنه ليس موضعا ثابتا ولكنه وظيفة : نوع من( اللا ـ موضع) فيه عدد لا حصر له من تبديلات العلامات Sign-substitutions التي لا بد أن تُؤخذ في عين الاعتبار” (25).
وعلى الرغم من أن (ضد الحقيقة) أو (ضد الواقعية) هي ميتافيزيقية ضرورية من حيث ارتباطها بالمذهب الكلي ابستومولوجيا ، إلا أن التطور في الفيزياء الكوانتية عزز برنامج (ضد الواقعية). فلم يعد العلم قادراً على دعم فيزياء الجسيمات النيوتونية المتركزة بوصفها كيانات ذات جوهر ثابت ، وبدلاً من ذلك فان الحقيقة الفيزيائية ديناميكية : أي أن الكون ليس كيانا موجوداً له تاريخ ولكنه هو تاريخ بحد ذاته ( أنه أكون متعددة a multiverse) . والعالم ليس خلق منته creation بقدر ما انه استمرارية في الخلق creating (26).
لاقت التعددية المتضمنة في الفهم الجديد للعلوم بشأن الواقع المادي ، صدى فلسفياً في إعادة بناء مارتن هايدغر لطبيعة الحقيقة المطلقة (27) . تمثل فلسفة هايدجر نقطة التحول إلى ما بعد الحداثة. وقد لقي مفهومه الديزاين Dasein بمعنى حضور الكون أو معنى الكينونة أو الحقيقة الإنسانية أهمية خاصة بوصفه التمثيل الأساسي للكينونة. وبوصفه وسيلة زمانية وعلائقية للكائن في العالم ، فان الديزاين يمثل خروجا عن تفسير الفلسفة الكلاسيكية للكينونة الخالدة . ومن الناحية الفلسفية تفترض ما بعد الحداثة ـ في بحثها عن الحقيقة ـ وجود تفسير زمني للقاعدة التي يجب أن تفهم الحقيقة استنادا إليها ، وتسهم فلسفة هايدغر الوجودية في توفير أسس ميتافيزيقية لمثل هذه الخطوة. ومع ذلك، فإن تفسير الحقيقة المطلقة بمصطلحات زمانية هو افتراض أساسي ذي أهمية تأويلية كبيرة. وقد كانت نتيجته بفضل ما بعد الحداثة هي : التعددية (28).
وبذلك فان ما بعد الحداثة من وجهة نظر المنظر الثقافي الأمريكي راؤول ايشلمان ربوبية Deist و غنوصية Gnostic في مقابل الواحدية الحداثية المتشددة . إذ بدلا من أن ترى العالم بمصطلحات الخالق /الشخص وتقليد هذا الخالق ، فان ما بعد الحداثة تتعامل معه بوصفه كلاً ديناميكياً حيوياً يتطور ويتحول باستمرار( الإله غير الشخصي للربوبية ) ويتكون من أجزاء متساوية غير ثابتة تسمح بإدراك مؤقت وغير كامل لاشتغالات الكل . ويهدف ما بعد الحداثيين إلى أن يعرفوا فحسب ، لا أن يؤمنوا أو أن يستفيدوا من تدفق الطاقة حول العالم . ويلاحظ ايشلمان أن واحداً من أهم المنظريين السينمائيين في ما بعد الحداثة : جيل دولوز يقتبس مفاهيمه من الفلاسفة الربوبيين أمثال ليبينز وبرغسون .
أما جاك دريدا فيلسوف اللغة الأهم في ما بعد الحداثة فانه يلتزم بفكرة أقرب ما تكون إلى الفكرة الغنوصية : البحث عن الحقيقة . انه يتعقب الآثار الجوهرية المبعثرة للمعرفة، بدلا من أن يحاول تمثيل جوهر حقيقة متعالية واحدة (29).
ولكن ايشلمان يرى أن السنوات الخمس عشرة الأخيرة قد شهدت نشوء حالة في العلوم الإنسانية غالبا ما تسمى ( نهاية النظرية ) أو (ما بعد النظرية) . وهذا يشير إلى حقيقة أن نظريات ما بعد البنيوية التي وضعها لاكان ، و دريدا ، وفوكو، وبارت ، و دولوز قد أُستنفذت دون بلورة نظريات جديدة بالثقل والأهمية ذاتها . إن الاتجاه السائد في مجال الدراسات الإنسانية هو دراسات ما بعد الاستعمار التي تهجن نظريات ما بعد البنيوية القائمة ولكن دون القدرة على تطوير وظائف جديدة جوهرياً. وبصرف النظر عن استراتيجيات التهجين هذه، فان عددا من النظريات التي نشأت في السنوات القليلة الماضية تختلف بشكل ملحوظ عن ما بعد البنيوية بحكم تركيزها على موضوعات الوحدة unity والغلق closure . ومن أشهر حاملي هذا الفكر الجديد جان لوك ماريون ونظريته الظواهراتية ، وبيتر سلوترديك ونظريته الكرات المغلقة ، وايرك غانس والانثروبولوجيا التوليدية ، وآخرون. وتستند جميع هذه النظريات على الوحدة ، والفهم الإيجابي للهوية ، والغلق ، والحضور .
و ايشلمان الذي يجمع بين الفهم العميق لتقاليد السيميائيات الثقافية المميزة لمدرسة تارتو السوفيتية مع الاطلاع على التفكيكية الدريدية ، والنظريات ما بعد النسوية ، يؤكد بثقة انه لا جدوى من الإعلان عن نهاية ما بعد الحداثة دون محاولة رسم ملامح ما بعدها، والتنبؤ بما يمكن أن يكون بديلاً لها . والبديل من وجهة نظره هو (الواحدية الجديدة ) التي تمثل صيغة نتاج ثقافي يُذكر القراء بالقرن الثامن عشر وليس العشرين ، على الرغم من أنها تخلت بحزم عن ادعاءات التجاوز والتفوق التي ميزت واحدية القرن الثامن عشر العقلانية .
يرصد ايشلمان في كتابه (الأدائة أو نهاية ما بعد الحداثة ) جملة تغيرات في الادب والرواية والسينما والعمارة والسياسة والفن توضح حقبة غادرت ما بعد الحداثة وباتت تندرج تحت مظلة أوسع يمكن أن نطلق عليها (الكانطية الأنثروبولوجية). ذلك أن المفاهيم الكانطية للذاتية والحكم الجمالي يجري تطبيقها في الأدب الجديد ـ بوعي تام في بعض الأحيان ـ على قضايا الأحداث الجارية التي تتعلق بدور الأفراد والثقافات في عصر الرأسمالية العالمية. وقد جرى تعديل وتكيف هذه الأفكار الكانطية إلى عقلية واحدية جديدة تتعارض مع ثنائية العقل والمادة الكانطية الأصلية ( أو ربما التي أُسئ تفسيرها). إن نقطة الابتكار الأساسية لهذا التعديل تكمن فيما أطلق عليه ايشلمان مصطلح الأداء . ويعرف المبدع أن هناك انقسام بين العقل والمادة (أو بعض الازدواجية الأساسية الأخرى)، ولكنه يرغمنا ، على الرغم من ذلك ، على التماهي مع إمكانية تجاوز ذلك شكلياً عن طريق تمرير عين العقل وعواطف الجسد على الشكل . إن الجماليات هي (مكافأة) هذه المشاركة في التماهي أو الإسقاط المحدد بوساطة الشكل. تتجاوز المتعة الأدائية ثنائية المعرفة والجسد . وعقاب تجريد ذلك الإسقاط من أدواته هو أن تعيش في حالة ابستومولوجية صحيحة ،ولكنها مكدرة بمعرفتك أنها ما بعد حداثية . تختلق الجماليات الابستومولوجيا في الأدائية وتفبركها . فالفن هو المكان المميز حيث سيكون بمقدور العلمانيين اختبار التجاوز والسمو مرة أخرى حتى وإن كان ذلك فقط في ظروف محدودة واصطناعية. ليس هناك شك في أن أنسب المصادر الفلسفية والنفسية والاجتماعية للتعامل مع هذا الوضع “المغلق” وإسقاطاته الإيجابية المحددة هي التقاليد الكانطية العائدة (30) .

 

عن أدب وفن

هوامش:

1. ينظر: Kevin J. Vanhoozer, First Theology (Downers Grove: InterVarsity Press, 2002), 15-17
2. ينظر: Millard J. Erickson, Truth or Consequences: The Promise and Perils of Postmodernism (Downers Grove: InterVarsity Press, 2001)p45
3. المصدر السابق:55
4. ينظر: Rene Descartes, Meditations on First Philosophy, trans. John Nottingham (Cambridge University Press, 1986)
5. الفلسفة الرِّوَاقِيَّة: مذهب فلسفي ازدهر حوالي القرن الرابع قبل الميلاد واستمر حتى القرن الرابع الميلادي. بدأت في اليونان ثم امتد إلى روما. اعتقد الفلاسفة الرواقيون أن لكل الناس إدراكًا داخل أنفسهم، يربط كل واحد بكل الناس الآخرين وبالحق ـ الإله الذي يتحكم في العالم.
6. ينظر: Immanuel Kant, Critique of Pure Reason (London: J. M. Dent &Sons, 1959), 62. يرى كانط أن معرفتنا تنبثق من مصدريين رئيسين في العقل : الأول حيث القدرة على استقبال التمثيلات ( تقبل الانطباعات ) والثاني هو القدرة على الإدراك من خلال هذه التمثيلات ( تلقائية إنتاج المفاهيم ).
7. ينظر: Kinsman, Ted: Kant’s Nonfoundationalist Grounding of Reason. Berlin, New York (Walter de Gruyter) 2008
8. الذرية المنطقية : هي مذهب فلسفي نشأ في أوائل القرن العشرين بالتزامن مع تطور الفلسفة التحليلية . ومن أشهر رواده الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسيل (1872-1970), والأعمال الأولى للودج فيجنشتاين ورودولف كارناب . وتقول النظرية بأن العالم يتكون من حقائق (facts) أ وذرات atoms منطقية غير قابلة للانقسام . نحت راسيل المصطلح عام 1918 استجابة لما أطلق عليه الكلانية المنطقية logical holism والتي تعتقد بأن العالم يجري بطريقة لا يمكننا معرفة أجزائه دون معرفة الكل . وأن الكل اكبر من مجموع أجزائه . وهو الاعتقاد الذي يطلق عليه الواحدية .
9. ينظر:Nancey Murphy, Anglo-American Postmodernity: Philosophical Perspectives of Science, Religion, and Ethics (Boulder: Westview Press, 1997), 9,10.
10. ينظر: Habermas, Jurgen, THE PHILOSOPHICAL DISCOURSE OF MODERNITY: TWELVE LECTURES. Tr. by Frederick Lawrence. Cambridge, MA: The MIT Press, 1987.lecture1.p4..
11. ينظر: هيغل، محاضرات في فلسفة التاريخ، الجزء الأول: العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، ط3، 1983م، ص80 .
12. عمر كوش ، مفهوم العقل: النشأة، الميتافيزيقا، الواقع، مقال انترنتي: http://www.altasamoh.net/print.asp?Id=339
13. ينظر: Fernando L. Canale, Back To Revelation-Inspiration: Searching for the Cognitive Foundation of Christian Theology in a Postmodern World (Lanham: University Press of America, 2001):4-7.
14. ينظر: See Nancey Murphy, “Philosophical Resources for Postmodern Evangelical Theology” Christian Scholars Review 26/2 (1996):185-193.
15. ينظر: : Millard J. Erickson, Truth or Consequences: The Promise and Perils of Postmodernism (Downers Grove: InterVarsity Press, 2001)p115
16. ينظر: Nancey Murphy, Beyond Liberalism and Fundamentalism: How Modern and Postmodern Philosophy Set the Theological Agenda (New York: Continuum International Publishing Group Inc, 2007), 94.
17. ينظر: : Millard J. Erickson, Truth or Consequences: The Promise and Perils of Postmodernism (Downers Grove: InterVarsity Press, 2001)p162
18. ينظر: Richard Shusterman, “Beneath Interpretation,” The Monist 75 (1990), 187.
19. ينظر: Jean-Francois Lyotard, The Postmodern Condition: A Report on Knowledge (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1984): xxiii-xxv.
20. ينظر: James K.A Smith, “A Little Story About Metanarratives: Lyotard, Religion, and Postmodernism Revisited,” Faith and Philosophy 18/3 (2001):353-368.
21. ينظر: Keith Yandell, “Modernism, Post-Modernism, and the Minimalist Canons of Common Grace,” Christian Scholars Review 27 (1997),19
22. ينظر: Diogenes Allen, “Christianity and the Creed of Postmodernism,” Christian Scholars Review 23/2 (1993), 120.
23. المصدر السابق.
24. -ينظر: Keith Yandell, “Modernism, Post-Modernism, and the Minimalist Canons of Common Grace,” Christian Scholars Review 27 (1997),18
25. ينظر: Stanley J. Grenz, A Primer On Postmodernism (Grand Rapids: Eerdmans Publishing Co., 1996)p41
26. ينظر: : Millard J. Erickson, Truth or Consequences: The Promise and Perils of Postmodernism (Downers Grove: InterVarsity Press, 2001)p118
27. المصدر السابق :53
28. ينظر: Fernando L. Canale, Back To Revelation-Inspiration: Searching for the Cognitive Foundation of Christian Theology in a Postmodern World (Lanham: University Press of America, 2001): 7.
29. ينظر: Raoul Eshelman. Sokurov’s Russian Ark And The End Of Postmodernism http://www.artmargins.com/index.php/6-film-a-video/268-sokurovs-russian-ark-and-the-end-of-postmodernism
30. ينظر : د.معن الطائي وأماني أبو رحمة ، الفضاءات القادمة : الطريق إلى بعد ما بعد الحداثة . دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر . القاهرة 2011.

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail