باسمة ومزعل / جمال القواسمي

-1-
لقد استلطفته منذ الوهلة الأولى التي رأته فيها في مكتب التسجيل في الجامعة.
دنا منها وسألها وهو عابس: هنا غرفة التسجيل!؟
كانت ملامحه الجادة غريبة عليها؛ تفاجأت بأنه أضحكها رغم كشرته المتحجرة، وشعرت بظل الذنب يقرصها، لجمت ضحكتها العاصية واستغفرت ربها. حقاً ضحكت لاإرادياً، وشعرتْ برغبة لتعتذر منه، لكن صديقتها مالت اليها وقالت، “شكله من قبيلة عبس!!”
اندهش بثغرها يفتر عن ابتسامة مريبة وقالت له، “نعم، هنا غرفة التسجيل!” ثم بلعت ريقها، وقالت: أعتذر بشدة عن ضحكي عليك، أرجوك أن تسامحني، والله لم أقصد!!”
مال عليه احد الطلاب المستجدين وهمس له، “انها من اتباع الدين الآخر!!”
قال لها: سامحك الله. لا تقلقي.
كانت تلك المرة الأولى التي يتحادث كل منهما مع شخص من الدين الآخر؛ ومنذ الوهلة الأولى لم ينكر احساسه بأن ثغرها الباسم فتح جراراً من الطيب وقد تعلقت بها كل فراشاته ونظراته ونحلاته، أما هي فقد شدَّها إليه بهيئته الجادة الساحرة ونظرته الفضولية وشعرت برجولة لا تراها عند الرجال الباسمين المائعين.

-2-
ورغم ذلك، كلاهما ابتعد عن الآخر، وتجنب كلٌّ منهما الآخر. كلما رأته ابتسمت، وكلما رآها، أمعن في كشِّرته؛ ومع مرور الوقت لاحظت انها كلما تراه يقلُّ ابتسامها عن المرة التي سبقتها؛ ولاحظ هو أيضاً انه مع مرور الوقت، تخفُّ وطأة كشرته الجادة أكثر فأكثر، بل شعر ذات يوم انه كاد يكون محياه حيادياً بلا أدنى تجهُّم. لقد كانا في الجامعة ذاتها، والكلية ذاتها، وحتى تزاملا في مساقين معاً في قاعة واحدة ومع معلمة واحدة في الفصل الثاني من السنة الأولى. وفي اليوم الأول للمساق في القاعة الصغيرة، تحادثا حديثاً قصيراً.
قال لها: مزعل، أسمي مزعل.
قالت له: باسمة، اسمي باسمة.
والغريب انهما خلال المساق المشترك، طوال أربعة شهور، كانا يهربان من بعضهما في قاعة الصف، فإذا رأته يجلس في المقدمة، جلس في آخر الصف؛ وإذا جلس في أقصى اليمين، اتخذت من أقصى اليسار موقعاً لها؛ وإذا جالست صديقة طفولتها مرح، جالس ابن حارته عبَّاس.
ذات يوم في نهاية السنة الأولى، اضطرا إلى الجلوس قريبين من بعضهما في قاعة الامتحانات النهائية. وشعرا بتعاستهما وهما مُجبران على الصمت التام، على بعد مترين؛ في بحر سفنه كانت رؤوساً غارقة في أمواج من ورق الأسئلة والإجابات، نسيا الامتحان وتبادلا نظرات كثيرة. تحسرا على السنة التي ضاعت منهما بلا دردشة ولا اطمئنان ولا صباح الخير او كيفك!؟ كانا على بعد مترين، فقط.
انذرهما احد المراقبين: وجهك على الورقة، أنتَ وإياها.
واضطر مدير القاعة ان يبعد مكانيهما بحجة منعهما من الغش وهدد ان يحرمهما من الامتحان نفسه. ورغم انهما لم يتحادثا كلمة واحدة، لكنهما لم يعرفا ولم يهتما بمعرفة ان المراقب ذاته كان من دين باسمة وان مدير القاعة كان من دين مزعل، وان قرار ابعادهما عن بعضهما في قاعة الامتحانات كان وراءه خطة منظَّمة من المجتمع نفسه، وان كلاهما كانا مجرد موقعين دفاعيين متقدمين لجيوش وهمية من المِلل والكراهية والخوف الأعمى، لا غير.
بعد الامتحان، تصافحا. تصافحا وهي تهديه يدها عشاً أبدياً لأنامل يديه، فأمسك بها ولم يطلقها إلا حين أمسك بيسارها ليمشي بجانبها. ولم يهمهما ردة فعل مَنْ حولهما؛ أدركا منذ أن تصافحا أمام الطلاب، أنهما حالاً فقدا بعض الأصدقاء، وأولهم عبَّاس، ولو كانت صديقتها مرح موجودة لتخلت عن صديقتها الخائنة فوراً.
تجهم مزعل، وقال لها: لا نستحق بهدلة مدير القاعة، لماذا تضحكين!؟ الشرّ برَّة وبعيد.
قالت: أمرنا غريب.. لا نتبادل الكلام إلا في نهاية السنة، ونحن زملاء ورفاق.
– اللعنة، كم أنا مغفل..
– وأنا أيضاً مغفلة..
هذه المرة لم يحادث زملاءه ولا بنات دينه، وهي لم ترافق زميلاتها ولا شباب دينها. مشيا معاً، ذهبا الى الكافتيريا معاً، افطرا معاً.
قال لها: “التكشير عتبة التأمل والتفكير!”
قالت له: “البسمة صلاة المرضيّ عنهم.”
قال لها، “كيف تشعرين وأنت تبتسمين بهذا الشكل!؟ ألا تخشين الله!؟”
قالت له: “كيف يحتمل وجهك كشرته!؟ حرام أن تعبس هكذا!!”
قال لها، “ابتسامك يجعلك مسخرة للجميع!!”
قالت له: “كشرتك تحجب عنك وعن الناس نفسك.. انها قناع لا يلائمك.”
قال لها، “كشرتي ليست كشرة، انها ببساطة جدية، عزيزتي.”
قالت له: “الابتسام ليس مسخرة. البسمة ببساطة نعمة، عزيزي.”

تكلما عن نفسيهما والافلام والكتب والأغاني التي يحبانها. وحين حان الرواح، عادا الى المدينة في الحافلة نفسها. طلبا من السائق أن يترجلا عند مسرح البلد، حيث المكان شبه خالٍ دائماًً، وحيث بوسعيهما المشي وحدهما ويداهما متعانقتان. كان ما زال متجهِّماً، بينما أصرَّ وجهها البشوش على ولادة بسمات كانت تتكسَّر على جدران كشرته.
قال لها: “حسناً، طيب، باسمة، سنكمل غداً، دمتِ بخير.”
قالت له: “دمتَ بصحة وعافية، مزعل. سأراك.”

-3-
السنة الثانية في الجامعة كانت قاسية جداً عليهما. فقد اتسعت دائرة الإشاعات عنهما وزاد عدد الأصدقاء والزملاء الذين قطعوا علاقاتهم بهما. وحتى عندما اعتادا ان يروح كل منهما إلى بيته، كان شعور بالذنب يخامرهما. حاول كل منهما أن يحجب عن عائلته أمر صداقته بل إعجابه بشخص من الدين الآخر، لكنهما كانا فاشلين، فقد زلَّ لساناهما باسميّ كل منهما. وكانت ردة فعل عائلتيهما كأنَّ صاعقة مدمرة قد ضربتهما.

– باسمة!؟ صديقتك اسمها باسمة!؟ هذا الاسم المايص لا يناسب الا شخصية خيالية في مسرح البلد..
– هدا ليس اسماً مايصاً..
– يا روح أمك، باسمة تبدو من اسمها من الدين الآخر!؟ أوعى، لا تجعلها تضحك عليك وتسحرك..
– احكموا عليها من تصرفاتها ومن شخصيتها يا ناس.. والله منيحة…
– الله يسترنا منك ومن دراستك، شكلك طالع لخالك المايع..

– مزعل!؟ مزعل مين!؟ واضح من اسمه انه من الدين الآخر!!
– وهل تتكلمين معه ومع المكشرين يا روح أمك!؟ احترسي، لئلا يأكل عقلك!!
– أنا أراه رزينا وجدياً..
– رزيناً!؟ صارت الكشرة جدية!؟ هذا كفر يا ابنتي..
– هم بشر مثلنا.. هو رجل كويس، وصاحب اخلاق..
– ماذا فعلنا لنستحق هذا العقاب وهذا العقوق يا ربي!؟

-4-
في السنة الجامعية الثالثة، كل ما حولهما كان يشير الى انهما عالمان غريبان وغير قابلين للتصادق. كان يصران على وجودهما معاً رغم ما شعر به كل منهما في البدء من مشاعر الخيانة ازاء نفسيهما او ازاء عائلتيهما.
لم تتوقَّع عائلة باسمة ان مزعل زارهم ذات يوم وتعرَّف إلى أهلها؛ بشاشة أمها المؤرِّخة كثيراً ما أوجعت رأسه حقاً، وأبوها الضليع بالأدب لسانه لا يصمت أبداً.
قالت له أم باسمة: أنتم المكشرون بالأصل فرع منا!!
لم يكن مستعداً لنقاش وجدال ديني وتاريخي من هذا النوع، فهو مجرَّد من أسلحة النقاش تماماً، لكن أبو باسمة مال إليه وسأله: هل تعلم ان الكَشْرُ هو التبسم . يقال: كَشَرَ الرجلُ وافْتَرَّ وابْتَسَمَ كل ذلك تَبْدو منه الأَسنان، لكنكم تحرمون التبسم والابتسام والبشاشة وحتى مظاهر الفرح أيضاً.
كلما زار أهلها، اضطر مزعل المسكين أن يبتسم، يهزل، او ينكت، ليرضي أهلها، خاصة أباها، ثم حينما يغادر بيت أهلها، ينزوي في مكان خلاء ويبكي نادماً على ابتسامه وكفره ويتوب ويؤنِّب نفسه بأنه لن يفعلها مرة أخرى.
وكلما غادر بيتهم، كانت عادة وداعه لهم تظهر جديته العابرة، فقد اعتاد مثل قومه على قول: “حسناً، طيب يا جماعة!”
وذات مساء سمع أخاها النكتجي وهو يهمس لخاله: هل لمحت ما ظهر من عبوسه!؟ وسمع خاله يقول وهو يتبسَّم: ذنب الكلب اعوج لو وضعوه بمئة قالب.

وحين كانت تزور باسمة المسكينة بيت أهله، تصبح جدية، ولئيمة، وقرفانة وأحياناً كثيرة مكشرة. وكانت كلما غادرت بيت أهله، تتجه الى بيت صديقتها لكي يكون بوسعها أن تتخلص من تيبُّس عضلات وجهها وتشمِّس عتمة صباحها بابتسامات كثيرة، فلم تكن تستطيع السيطرة على ملامح وجهها. وذات يوم، لمحت أم مزعل ابتسامة خفيفة على وجه باسمة ونقزت كأنَّ عفريتاً مخيفاً قفز أمامها، وحين لكزت زوجها، مال ابو مزعل الى زوجته وقال ان الطبع غلب التطبُّع!

كانت باسمة بين عائلتها الكبيرة قلقة وكثيراً ما ظهرت إمارات الجد والرزانة على وجهها على نحو لاإرادي، فقال لها عمها انها قد تحتاج الى علاج نفسي؛ أما مزعل فقال له أبوه: آخرتك، بعد التخرج، أن تتزوج كاشورة ابنة خالك!؟ كشرة ونكدة واحلى ما يكون!؟ أو معسر بنت عمك!؟ وجهها يقحمش بل يحرق الرغيف السخن!؟ لازم تفكر بواحدة لطعة وحناكها مرخرخين مثل صاحبتك التي ليست على دينك!؟ كيف نجالس هؤلاء الكفار!؟ لا كشرة الا كشرة حق ولا تبسُّم الا تبسُّم باطل، آمين!!

كم شعر كل من مزعل وباسمة بالثقة في نفسه لتغيير الآخر. قال مزعل في نفسه ان الزمن كفيل بأن يجعلها تغير دينها وتضحي به في سبيل حبها له. وفكرت باسمة بضرورة تغيير دينه إذا أراد أن يتزوجها.

-5-
في السنة الرابعة، التقت باسمة بصديقتها وزميلة المدرسة مرح وهي زميلتها في الجامعة التي اختفت فجأة في السنة الأولى، قبيل الامتحانات النهائية. كم حاولت الاتصال بها، وحين زارت بيتها، قيل لها ان عائلتها رحلت الى بيت آخر. هكذا عادت صديقتها لمقاعد الدراسة وعلى يديها طفل ذو ملامح جادة أسرَّها جماله وشعره الاجعد.
– من هذا!؟
– انه ابني.
– ماذا تفعلين هنا!؟
– عدتُ لأكمل الدراسة..
– قلتِ مَنْ هذا!؟
ضحكت مرح وعادت وقال: قلتُ لكِ انه ابني، ابني، والله!!
كاد الموقف يخرس باسمة. كيف!؟ مِمنْ تزوجت؟ هل تعاتبها لأنها لم تدعُها لعرسها!؟
– انه مكشر، كيف؟
أخذت تنصت لمرح وهي تقول لها إنها احبت شخصاً مكشراً اسمه مناكد كان يعمل سائق تاكسي، وقد تخلت عنه عائلته لرغبته الارتباط بمرح المبتسمة، لكن اهلها لم يمانعوا زواجهما، رغم بعض التحفظ في البدء؛ وكان حفل زفافها متواضعاً وأقيم على عجل ونطاق ضيق. وطمأنتها بأن علاقات زوجها مع أهله قد بدأت تعود لطبيعتها بعد مجيء بكره.
– ما اسمه، مرح، ما أجمله!!
– الحقيقة، احترنا ماذا نسميه؛ ووجدنا احسن الحلول ان نسميه اسماً غير طائفي، وأسميناه چلچامش!!
– ما أحلى هذا الأسم!!
– لكن كيف التجربة، مرح، كيف تجربة الزواج المختلط!؟
– صعبة لكن حلوة. مجتمعنا قاس. تجربة قاسية. كان مناكد احياناً لا يستطيع ان يبتسم او يضحك، ولأخفِّف وأسري عنه كنتُ أكشِّر وأزعل من نفسي وأكون جدية؛ أحياناً يبلغ بي الاكتئاب درجة ان ادخل الحمام، وأغلق الباب على نفسي، وأقف أمام المرآة وابتسم؛ وعندما أكون وحدي في البيت، كنتُ أقهقه وأبتسم وأشعر براحة غامرة. وطبعاً كان مناكد احيانا يجاملني ويبتسم..
– مرح، أصدقيني القول: هل تذكرين انك كشرت ذات يوم كشرة طبيعية؟ هل رأيته يبتسم بسمة عذبة تلقائية من القلب!؟
– ستتفاجئين لكنها الحقيقة.. احياناً كثيرة هذا ما يحدث حقاً.. لقد اكتشفتُ منذ سنتين انني أكون جدية في كثير من المواقف ولا يغمرني الشعور بالذنب، أبداً؛ وكذلك تثيرني بسمة مناكد كزخة غيمة من الفرح وتنشيني حقاً بسمته كموجة حب..
– بماذا تنصحيني لو أنا كنتُ في وضعك!
وجدت مرح نفسها تبكي وعانقت صديقتها باسمة: حبيبتي، لا اعرف بما انصحك!! تعوزني الحكمة، لكن قد تفيدك قراءة الروايات العاطفية الممنوعة ومشاهدة قنوات المسرحيات المشفَّرة.. صدقيني، صدق من قال: الحقيقة ليست في الطريق العام، وإنما في الطرق الفرعية!!

-6-
ذات ليلة، زار مزعل خاله أبا كاشور، ورغم محبته العارمة له، نوى مزعل أن يتشاجر معه. وكان فظاً ووقحاً معه ورفض دخول بيته، الأمر الذي جذب انتباه الجيران في بعض النوافذ وشرفات المطابخ وبعض الشباب الذين كانوا سهرانين في الحارة، وكذلك جاره صاحب الحانوت، الذي خرج من دكانه وراح يتابع ما يجري باهتمام، بل وراح يشكو لخاله ابنه الصغير..
– حسناً، طيب، يا مزعل، أدخل البيت ونتكلم. ساتفهمك.
– لنخرج، يا خال، لنخرج نتحادث في مكان بعيد.
وقاطعهم البقال غاضباً: يا أبا كاشور، ابنك عنيد عاد الى البيت ومعه كرتونة عليها وجه بسَّام، وحينما نهيته، رسم وجها مبتسماً بيده، ابنك ضال ولئيم!!
وصاح فيه خالي: ليس لك دخل!! انه طفل، اتركه وشأنه، حِلْ عنا!!
فارتدَّ البقال مرتعباً، وقال: بل رسم وجها باسماً… والله، حرام، حرام، لا اجرؤ أن أذكر الكلمة، كم هي ثقيلة على لساني!!
وصرخ الخال: انه طفل!! ما زال طفلاً..
ودفش مزعل البقال مهدداً: إياك أن تتكلم عن ابن خالي أو حتى أن تحملق به، هل سمعتني!؟ من يلقي بنظرة اتهام واحدة لعنيد، أقسم أنني سأنزع حواجبه لكي لا تستقيم له كشرة ولا صلاة أبداً، وبئس المصير!!
ارتدَّ البقال خطوتين للوراء، يلتهمه الوجل، بينما دنا شبان الحارة من مدخل بيت خاله، وسمع خاله يخاطبه وهو يعاتبه: أدخل، يا رجل، الشر برَّة وبعيد، لا يمكن لشيء أو أحد أن يوقع بنا يا خال، أدخل!!
– لا تؤاخذني، يا خال، لا أريد أن يحدث سوء فهم معك او مع أبي وأمي أو مع كاشورة.
– ادخل، يا مزعل!!
– لن أدخل، ولن أتزوج من كاشورة!!
– أدخل، يا رجل، عيب عليك أن تناقش الأمور العائلية خارج البيت. أدخل يا حمار، هل تعتقد أنني أوافق على تزويج ابنتي من حمار أطرش مثلك!!
الغريب أن مزعل لمح ابتسامة خفيفة قد نزَّت من بين شفتي خاله مثل قطرات الدلف في أول الشتاء. وقفز البقال هائجاً: حرام عليك، ألم تروا ابتسامته!؟ ألم تروها!!؟
قال له خاله: خِرِفٌ أنتَ!!
وكاد مزعل يصفعه، فترك البقال حانوته وهرب.
وجد مزعل انه يدخل بيت خاله، ولاحظ ان خاله قد أحكم إغلاق الباب خلفه، وراح يؤهِّل به ويسهِّل وهو باشٍ، في شرفة المدخل التي تزيِّن واجهتها الزجاجية ستائر تحجب الرؤيا. كانت ثمة صناديق كرتونية كثيرة ورزم جرائد عتيقة، كأن البيت مخزن. كانا وحدهما، وكان بوسعه رؤية خيالات أجسام عائلة خاله في الصالون وسماع أصواتهم، ثم فجأة سكتت الأصوات.
تساءل مزعل: لماذا الستائر مغلقة، وما هذه الصناديق!؟
قال خاله: أنت حمار!
قال مزعل: قل هذا الكلام بين عائلتك لتكف ابنتك عن تفكيرها بي!!
قال خاله: ابنتي لا تريدك يا حمار، وأنا لا أوافق إلا أن تكون حبيبي.
ثم عانقه، وشكره لموقفه مع جاره البقَّال.
– أحقاً كاشورة لا تريدني!
– لماذا أنت قلق من ابنتي لهذه الدرجة!؟
– لأنَّني أحبُّ فتاة مبتسمة وهي زميلتي، ووالديَ يريدان تخريب إمكانية الارتباط بها!
– أحقاً!؟ لا تقلق، كاشورة لا تريدك. فلتكن لها أخاً، كما كنتما منذ صغركما..
– ولماذا الستائر مغلقة، وما هذه الصناديق!؟
– سأنقل من هذا البيت وهذا الحي المتعصب. يراقبون ما نفعله حتى في بيوتنا، ونستتر مثل الحرامية. انني لم أعد احتمل تزمُّت أهل الحارة وتأثير اسطواناتهم المملولة على بناتي وأولادي. تعال أدخل إلى الصالون، تعال!!
ورغم خجله وتردده، فقد دخل مزعل إلى الصالون، ودفشه خاله، وهو يقول له: ادخل يا حمار، الأمر الذي أسعد عائلة خاله جميعهم، وسلموا عليه وعانقوه، وهو متفاجئ ببسماتهم الجريئة الكافرة.
– وأين ستنقلون ومتى يا كاشور!؟
– خلال أيام!!
وقال له خاله: في حارة بسمة القطوف.
– أين!؟ بسمة القطوف!؟ وكيف ستتحملون العيش هناك!؟
صمت الجميع معاً.
وبعد دقيقة صمت، قال أبو كاشور: مزعل، احنا حوَّلنا ديننا من زمان، نحن كلنا باسمون، لقد أخفينا الأمر منذ فترة ونجحنا، ولكن لم نعد نستطيع ان نظل مختبئين ونعيش في الظل!!
ربطت الصدمة لسان مزعل، وجعلت من عينيه بؤرتين للقلق.
وتساءل كاشور المراهق: هل ستحمل السيف علينا يا ابن عمتي!؟
– طبعا، لا.
فقال الخال: ثمة خطة لدى مزعل للارتباط بمبتسمة. ما اسمها، يا خالي!؟
– باسمة.
صفقوا وهللوا وابتسموا، عانقوه وتمنوا له الخير.
قال لهم: كيف ستتحملون فقدان الأهل!؟
– من يحبنا سيبقى يحبنا ويزورنا؛ ومن لا يحبنا، فليقطع كل صلة له بنا.
وسألته كاشورة: لو تزوجتُ مبتسماً، هل ستحضر زفافي!؟
– سأكون سعيداً. ولسوف أضحك أيضاً!؟
– معقول!!؟ الله يسترنا من شر الضحك. الضحك حرام! أنتَ تعرف ان الضحك حرام عند المكشرين والباسمين معاً.
– لا بأس بقليل من الضحك في مناسبة… الزفاف!!
ابتسمت كاشورة، وقالت مستنكرة: ألهذه الدرجة ثقيلة عليك لفظة فرح!
– سأرقص في فرحك، سأرقص. سأكون جادا كما يجب وكما يليق بالسعيد أن يكون وربما ابتسم قليلاً، لكن دون وعود. أخشى أن يهزأ بي بعضهم.
– وهل ستتأثر من أحد لو هََزِئ بك!؟
– ولو قلتُ لكِ اني تعوزني خبرة التعامل مع البنات، ألديك نصيحة لي!؟
قالت له كاشورة: لستُ حكيمة لأسدي لك النصح، لكن ثمة مقهى لطيفة في مسرح البلد، اذهب أنت وصديقتك اليها؛ ستجد هناك ما تبحث عنه..
-7-
كما كانت باسمة مضطربة وقلقة مما سمعته من صديقتها مرح، فقد كان مزعل مضطرباً وقلقاً مما سمعه عن عائلة خاله. لقد بدا الأمر شديد التعقيد وجديداً لكن صار ينتبه لِمَ يقوله أبوه على نحو عَرَضي عن خاله ذي الشخصية المتساهلة والمنفتح والموسوم بالفشل. باسمة لم تكاشفه عن صديقتها، ومزعل لم يطلعها على أحوال عائلة خاله. وتفاقم الوضع حين اكتشف جيران خاله ان بين أثاثهم، الذي يتم تحميله في شاحنة الى بيت غير معلوم، صناديق تحوي كتباً ومجلات عن النكت وفوائد الابتسام، وانتهى الأمر إلى حرق نقلة العفش الأخيرة والتهجم على خاله وكاشور ومزعل، وكانت طوشة كبيرة انتهت الى عطوة غير مسبوقة. ورغم ان حمولة مزعل وقفت وقفة رجل واحد مع خاله، لكن بعد الحلّ العشائري، كان ثمة غضب وعدم رضى من خاله، بل محا البعض اسمه من شجرة العائلة. ورغم محبته لخاله، لم يقتنع بصواب ما فعله، بل كان ملتزماً بالتكشير كعتبة للتأمل والتفكير، وكثيراً ما استغرب ان باسمة جعلته يكشِّر بتلذذ رغم بشاشتها السافرة؛ وكانت هي أيضاً فخورة بكونها مبتسمة، وأنَّ لبسماتها قارئاً جديداً مدمناً على رحيقها.

في نهاية السنة الرابعة، كان ما يزال مزعل وباسمة متعودين على ركوب الحافلة معاً في طريق العودة من الجامعة الى البيت، يترجلان عند مسرح البلد الخالي من الناس، ويتمشيان وحدهما. في اليوم الأخير للدراسة في الجامعة، الامتحان النهائي الأخير، كانت ثلة من المقنَّعين تنتظرهما قرب المسرح؛ صرخوا فيه صراخاً صلفاً وضالاً وسخروا من جديته وهزئوا به حتى تكالبوا عليه ودغُّوه ودغدغوه بقبضاتهم حتى نفَّخوا وجهه وورموا جسده، وقالوا بلهجة غريبة انه بات يبدو مثل مهرج يفتعل الجدية؛ دافعت عنه المسكينة باسمة حتى بكت بكاءً لم تختبره من قبل.

-8-
انتهت الدراسة الجامعية. كانا يلتقيان بعد العمل، هنا وهناك. وجد عملاً في مؤسسة، ترك العمل، عمل قريباً من عملها، فصلها مدير المدرسة من عملها. ترك العمل. عملا معاً في مدرسة خاصة. هو يعلم رياضيات، هي تعلم مادة العلوم. حين اكتشف بعض الزملاء قصة حبهما، أجبرتهما المديرة على الاستقالة. عمل محاسباً، عملت سكرتيرة. مرت أربع سنوات وهم يقنعون عائلتيهما بضرورة قبول ارتباطهما. سينتظران موافقة الأهل أربع سنوات أخرى.
دعاها ذات يوم إلى مسرح البلد، شبه الخالي، وتذكر نصيحة كاشورة. كانت المقهى قد أغلقت تماماً نظراً لقلة الرواد. ثمة عجوز ذات شعر شايب تقرأ في كتاب، ثمة أشخاص لا يتعدون العشرة يرتدون ملابس غريبة أو على نحو غريب. على ساحة المسرح تم القاء علب عصير فارغة، الأمر الذي أحدث جلبة. هرع عاملان الى الشارع ليقبضا على الفعلة. لا احد. كم ودَّ أن يعلم إدارة المسرح بضرورة إزالة الأقنعة عن جدار الصالة: أقنعة صارخة، ضاحكة، مبتسمة، باكية.
تذكر مزعل صورة المسرح السيئة لدى الناس، واقترح على باسمة ان يبتعدا، لكنها رفضت، وأشارت له بأن يقرأ لوحة الإعلانات: قرأ عن معرض تشكيلي في احدى القاعات، لكنها أشارت إلى شيء آخر: دورة تمثيل.
قال مزعل: دورة تمثيل!؟
قالت باسمة: لم لا!؟
قال مزعل: مواعيدها تتعارض مع العمل.. سبعة اشهر، باسمة!!
قالت باسمة: للأسف، يا خسارة.
قال مزعل: ربما في الصيف، ربما ثمة دورة مكثفة.
اعتذرت السكرتيرة وقالت انه لا توجد دورة تمثيل في الصيف.
ابتسمت باسمة؛ كشر مزعل.
سألته: لماذا نعمل، ولمن!؟
قال ساخراً: لنبني مستقبلنا.
قالت: وهم يهدمونه.
سجَّلت باسمة في الدورة التي ستبدأ خلال أيام.
– والعمل!؟
– طز في العمل!! لماذا لا نقلِّل ساعات العمل!؟

-9-
وقفت المعلمة العجوز في منتصف الخشبة، وطلبت منهم خلع أحذيتهم وجراباتهم والوقوف حولها. سألتهم لماذا يريدون المشاركة في الدورة.
قالت باسمة: كي أكشر!
قال مزعل: حتى ابتسم بحرية!!
قالت المعلمة: وكي تضحكوا أيضاً!!
انتفض معظم المشاركين في الدورة، خائفين، وانسحب اثنان من الدورة حالاً. قال احد المنسحبين: هذا كفر، الضحك كفر، انت بلا دين، انت كافرة، حرام، حرام عليكم!!
قالت المعلمة: لا احد يحتكر الضحك لنفسه، الضحك مِلك الجميع!
قال مزعل: بس هذه فكرة غير طبيعية..
قالت المعلمة: الفكرة غير الطبيعية هي فكرة طبيعية لكن عقلنا لا يقبلها.. لكن احتراما لأديانكم، لن اطلب منكم ان تضحكوا.. لكن اذا ضحكتم لا تشعروا بالذنب، ولا تعذبوا انفسكم بكثرة التفكير.. لنتعارف.. على الستاچ لو سمحتم..
تنفَّسوا، تنفَّسوا بعمق، شهيق، زفير، شهيق، زفير.
امشوا، لا أحد يلمس الآخر، أمشوا، أركضوا، الهثوا…
افتح مخَّك!! صفِّي ذهنك، روِّق، تخلَّص من أفكارك!! ركِّز!!
امشوا، اخبطوا بعضكم ببعض، انتم افكار متصادمة في الذهن.. اوقعوا بعضكم البعض.. من الأقوى الذي سيبقى واقفاً دون ان يقع، لا تقلقوا لو ضحكتم عليه..
أمشوا، توقفوا، أقفزوا، ليختَرْ كل واحد منكم حيواناً يتقمصه: عووو، مياووو، ماءءء.. لا تضحكوا، عووا، انهقوا، انبحوا، زقزقوا.. لا تضحكوا..
انتم خرس لا تتكلمون، فقولوا كل شيء دون ان يفهمكم احد، قولوا ايها البليغون!! انطقوا وليصرخ احدكم بالآخر: باسمة، قولي لمزعل قصة حياتك، مزعل قُلْ لباسمة قصة حياتك.. ماذا!؟ لا أفهمك، تكلم!! تكلم يا أخرس!! انطقي يا خرساء!!
تسخين لعشر دقائق.. صفُّوا أذهانكم، لا تفكروا بشيء..
هذا سوق، دكاكينه تبيع مشاعر سعيدة واخرى حزينة واخرى غاضبة، تفضلوا: لدى كل واحد منكم كيس املؤوه ابتسامات وصرامة وجدية وهزلاً..
هذا سوق باشورة، يعني اواعي عتيقة: بيعوا فيه كل مشاعركم وافكاركم..
صفِّي ذهنك، روِّق، تخلَّص من أفكارك..
تبادل ادوار: باسمة هي مزعل، ومزعل هو باسمة.
قال مزعل بلسان باسمة: اذا عيشنا على دين التكشير، عيشتنا مطينة بطين يا مزعل. بلاش هالكشرة، افردها، كن بشوشاً.
قالت باسمة بلسان مزعل: اذا بقينا على دين الابتسام، بنصير شوربة يا باسمة. بلاش منها هالبسمة. كوني جدية.
إبتسموا، ابتسموا، كشِّروا، كشِّروا، اضحكوا، اضحكوا بفجور، بصخب، ثمة شخص ينكت، انتم تضحكون؛ ثمة شخص ميت، انتم تضحكون عليه، ثم كشروا وابكوا، ابكوا عليه، ابكوه كما لم يبكِ أحد من قبل..

– انتهى كل شيء بيننا.
– إذن، نحن كتلة واحدة.

– لكم دينكم ولي دين.
– اللي على دينه الله يعينه!!

– لماذا يحاربوننا!!
– لأننا لا نشبههم..

– هذا حل ليس طبيعياً..
– الأمر غير الطبيعي هو فكرة طبيعية لكن عقلنا لا يقبلها..

– افتح مخَّك!! صفِّي ذهنك، روِّق، تخلَّص من أفكارك!! ركِّز!!
– افتح مخَّك!! صفِّي ذهنك، روِّق، تخلَّص من أفكارك!! ركِّز!!

منذ سنوات اقترن مزعل وباسمة بزواج مدني. كوَّنا فرقة مسرحية متنقلة للدمى؛ وحين خلَّفا، عادت عائلتاهما لتتصل بهما، وترجاهما الجميع على الاقتران وفق العادات.

-10-
كان الموقف غريباً وهما مع طفليهما مالك وصادق في سيارتهما ينتظران دورهما عند الحاجز العسكري للتفتيش، حتى وقف أمامهم جندي ضاحكاً بكل فجور ووقاحة، برشاشه وقنابله الصوتية والغازية، ساخراً من تلك العائلة الهجينة الغريبة. وهرولت كتيبة الجنود الضاحكين لتشهد هذا المنظر الذي لا يرونه كل يوم.
قال جندي ضاحك: مكشر ومبتسمة!! يا للخلطة العجيبة!!
صرخ فيه مزعل: حرام عليكم، الأطفال، انكم تخيفونهم!!
فرد جندي ضاحك آخر: انتم جادون، الخوف يلائمكم، لا تقلق!!
أضاف جندي آخر: كلهم زناة!! سنجبي ضرائب منكم على الابتسام والتكشير، ونقشِّركم من هذه البلاد!!
قالت باسمة: انقشروا انتم!!
قال جندي ثالث: مبتسمة وتكشر، أليس هذا مضحكاً، واللهِ انها كوميديا!! وطويلة اللسان، أيضاً! لنتركهما لطائفتيهما، يا جماعة، الطائفتان لن ترحمهما ولن ترحم اطفالهما.
قال جندي رابع للجنود: المكشرون والباسمون فرع منا، ثم توجه بكلامه لمزعل وباسمة: انتم فرع منا نحن الضاحكين، ملتان مملتان ضالتان.
ووجد مزعل وباسمة ان فكرة الجندي الاخير تضحكهما من اعماق قلبهما؛ وتذكر مزعل كلام حماته وحميه. وانزعج الجنود الضاحكون من جرأتهم على الضحك السافر العلني، وكشَّروا متجهمين، وخبط احد الجنود الضاحكين وهو عابس زجاج السيارة براحته: يا لوقاحتكم وخبثكم وكفركم!! أتضحكون؟ كيف تجرؤون على الضحك!؟ هذه علامة مسجلة لنا نحن فقط، الضاحكين!!
سألته باسمة: ولماذا أنتَ تكشِّر!؟
انفجر احد الجنود صارخا: انظروا مَنْ يتكلم!! مبتسمة ناطقةً باسم المكشرين!! هذه هلوسات، هل انا أهذي أم أحلم!!؟ هذه مسرحية كوميدية أم هذا كفر وانتهاك لكل القوانين الوضعية الخاصة بحقوق براءة الضحك!؟
قال جندي غاضب آخر: أنتم تقولون ان الله حرمكم من الضحك، وحرم المكشرين من التبسم، وحرم المبتسمين من الكشرة، لكنه لم يحرمنا من شيء: لا من الضحك ولا الابتسام ولا الكشرة!!! فانخرسوا ولا تسأليني وأنا جندي ومعي سلاحي الآلي لماذا نكشر وبأي حق نبتسم!!
أصبح الجنود يضحكون وأسلحتهم تهتز وكروشهم تهتز والأرض تحتهم تهتز، وكان حال مزعل وباسمة يقول: كفانا الله شرَّ هذا الضحك! شعرا بغصة الهزيمة وتحسرا على البلاد التي ضاعت منهم وتعجبا كيف لم يتوقع أحد يوماً أن البلاد سيغزوها الضاحكون.

28-5-2012

اللوحة : بين العتم والضوء – مارك شاغال

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail