فيسبوك .. الأنا-الآخر وسؤال المعنى


أشرف الزغل
بروفايل، ستاتوس، لايك، كومنت، تاغ، فيد؛ كلمات يرددها مئات الملايين في أنحاء العالم من خلال تواصلهم عبر فيسبوك؛ ماكينة التواصل الإجتماعي الأعظم التي بلغت من العمر عشر سنوات. كميات هائلة من الكلام تجري على أحزمة نقل بأنوية تمثل جماهير عالم فيسبوك وبمدى بوسع الكرة الأرضية. آخر الأبحاث المنشورة بخصوص فيسبوك تقول أن زيادة استعماله مرتبطة بعدم رضا أو إحباط بخصوص الحياة. أبحاث مشابهة ناقشت أثر فيسبوك في تنمية مشاعر سلبية كالغيرة والعزلة والإكتئاب. اكثر الأبحاث المنشورة تستهدف الفئة العمرية في طور المراهقة أو أوائل العشرينات بسبب  ارتباط تلك الفئة التقليدي بفيسبوك كوسيلة اتصال نشأت في وسط جامعي. فئة الأكبر عمرا والتي تسابق الجيل الأصغر على اكتشاف “الكوكب الجديد” لا تزال في طور الدراسة، ويفترض بعض الباحثين أن فئة “الكبار” هي أحد المتغيرات التي تدفع الفئة الشابة إلى  ترك فيسبوك والاتجاه إلى وسائل اتصال أخرى في الفترة الأخيرة.

ثمة أسئلة فلسفية كثيرة بخصوص الأنا والآخر في بيئة فيسبوك. من أهمها ما هي المفاهيم والعلاقات التي تحدد المعنى، الوعي، الخطاب، إلخ ؟

في فيلم “الشبكة الإجتماعية” الذي يتحدث عن قصة فيسبوك ومؤسسه مارك زوكربرغ، بالإمكان تحديد مواصفات مارك كشخص منطو، غير ناجح عاطفيا، ولا ينتمي لنخبة جامعة هارفارد “Final Club” الذين يتسمون بالثراء والوسامة والذكاء. يثور مارك بشكل أشبه بثورة وجودية ويبدأ رحلة مواجهة مع المرأة التي تركته، مع ذاته ومع نخبة هارفارد. تشير الحبكة الدرامية في فيلم الشبكة الإجتماعية – التي لا تخلو من السذاجة لكن بعض تفاصيلها ترتبط بحقيقة نشأة فيسبوك – إلى عملية نفسية معقدة تتعلق بعلاقة الذات والآخر. العملية ذاتها التي تحرك الكثير من مستخدمي فيسبوك خلال اكتشاف ذات دائمه الدوران والبحث عن معناها، أو كما قال سارتر في “الوجود والعدم”  “نحن ندرك وجودنا حين نواجه نظرة الآخر، عندما ندرك أن أحدا ما يشاهدنا”. الأمر المثير في رؤية سارتر أننا حين ندرك أن أحدا ما ينظر إلينا خلال حدث ما، فإن ذلك الشخص يضعنا تحت تصنيف ما. تصنيف الآخر لنا – حسب سارتر – يضعنا في خانة معينة نبدأ نحن باستخدامها فتسلب حريتنا في البحث عن وجودنا كهوية مطلقة  ” الوجود في ذاته être-en-soi“. في نهاية الأمرتتمرجح الذات ما بين وجودها لذاتها “l’etre pour soi” ووجودها لغيرها l’être pour autrui”، حيث الذات موضوع للآخرين، وهنا يبدأ النزاع الوجودي لأن الذات تريد أن تكمل البحث عن وجودها.

سؤال الأنا والآخر

إذا أين يتركنا فيسبوك في مجال علاقة الأنا بالآخر؟.
مئات “الأصدقاء” في حالة وجود دائم. انت تسير وكائنات يجمعك أو جمعك معهم اشتباك اجتماعي ما في زمن ما يسيرون معك في كل اتجاه؛ حالة اشبه بالكوميديا السوداء، كوميديا لأنها تشبه جمعا من الناس، يمشون كل في شأن، لكنهم ولسبب ما مشدودون بحبال كدمى في سيرك و سوداء لأن فيها بعض الترقب الذي تنتجه هذه الكائنات الخفية: الأصدقاء. يشبه الأمر أفلام الزومبي، بالتحديد الأموات المشاة “Walking Dead”. من الافضل لك أن لا تصنع أية فوضى كي لا ينتبهوا فينقضوا عليك.

عملية التواصل الأكثر شيوعا في فيسبوك تبدأ بكتابة ستاتوس معين أو وضع صورة أو بوستر. هنا الأنا في حالة ديناميكية متحولة، تصنع نصا ما وتضعه على “حائطها” الخاص الذي يضعها في سياق “آخرين”؛ منهم الأصدقاء، أفراد من العائلة، معجبون، أو متطفلون. تعرفهم ولا تعرفهم في ذات الوقت، ولكنك بشكل ما تدرك انهم لحم ودم مثلك تماما. بالطبع لا تدرك ذلك فيزيائيا لأنهم ليسوا أمامك، بل تدركه عن طريق الإدراك أن هناك قوة واعية ما على الطرف الآخر، أو بتعبير هوسرل “بعد نفسي في الخفاء” hidden psychic dimension

هنا الأنا في حالة انتظار للآخر، الأنا لا تزال في حالة وجود للذات “pour-soi”. العملية التفاعلية تبدأ عندما يضع آخر (x) كلمة اعجاب “like” أو كومنت، ينوه فيسبوك الأنا بها عن طريق ضوء أحمر “notification”. هنا تبدأ لعبة الأنا والآخر. الإعجاب يقوي موقف الأنا من خلال تشجيع النص “status” المكتوب، لذلك تبدأ الأنا بتصنيف ذاتها كموضوع ملفت وقابل للإعجاب وأن النص مقبول وجدير بالدفاع عنه عن طريق هوية تحمل النص “status” كدرع. لذلك حين يعترض آخر (y)  على النص، فهو يعترض على هوية مكتسبة بفعل إعجاب عدد من الأصدقاء.

إذا، بالإمكان اعتبار فيسبوك ميدان نزاع وجودي، أو “للتخفيف من العبء الدرامي” لعبة وجودية. هنالك وجود للذات واع لوجوده، تقع “نظرة الآخر” عليه فتجعله موضوعا، لكنه يريد القيام بذات الفعل لتحقيق وجوده بجعل الاخرين موضوعا. وهكذا تدور ماكينة كبيرة من الرضا وعدم الرضا؛ من الوعي بالوجود للذات والبحث عن ذلك الوجود بشكله المطلق إلى الوعي بالوجود للغير والبحث عن التغيير. هنالك بالطبع من يجلس من بعيد يراقب الآخرين ولا يشارك بشيء؛ أولئك يعتقدون انهم الأقرب لحقيقة أنفسهم — ربما – عن طريق اتخاذهم هوية واحدة قد تكون الأقرب إلى المطلق أو “الوجود في الذات” كحجر على جانب الطريق . غير أن وجود هؤلاء محكوم بشبكة لن تتركهم وحدهم، فهنالك بروفايل يضعهم في نسيج جغرافي/تاريخي/اجتماعي. لذلك فهم كلاعبي الإحتياط، يزج بهم باللعبة رضوا بذلك ام لم يرضوا، إن كان ذلك بفعل نيوز فيد أو تاغ أو مناسبة ما.

صناعة الغوغاء   

هنالك عملية تواصل أخرى تتم عن طريق مجموعات إعجاب ببطل ما أوبضاعة استهلاكية، أو قيمة جماعية. قد تحتوي المجموعة على ملايين الأشخاص أو المعجبين  الذين يترقبون أخبار “نيوز فيد” البطل أو القيمة العليا صاحبة الصفحة المليونية. هذه الجماعة تتصرف بأشكال اجتماعية معهودة في  دراسات سيكولوجيا الجماهير. فالجماهير قد تكون فاعلة “active” أو غير فاعلة “passive”. سيكولوجيا الجماهير الفاعلة تتضمن أنماطا عدوانية كممارسة العنف اللفظي أو التنظير الدوغمائي بناءا على أفكار بدائية مسيطرة ومشاعر مشتركة، وهي ما سيتم التركيز عليه هنا.

ربط الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون بين هذه الفئة وبين “العدوى Contagion”. وفقا للوبون تقوم أفكار دوغمائية معينة بتحويل أشخاص غير فعالين أو غير موهوبين  إلى كتلة متحركة هدامة. بالطبع، لوبون الذي عاش ما بين القرن التاسع عشر والعشرين كان يعالج ظواهر ما قبل عصر فيسبوك وسائر أدوات التواصل الإجتماعي، لكن أدواته البحثية تسترعي الاهتمام والإستخدام امام ميكانيزمات مشابهة تحدث في بيئة فيسبوك. وفقا للوبون، طريقة استجابة الجماهير للتحريض تخضع لنمطين من الفكر : الاول يستخدم الفكرة المفهومية والثاني يستخدم الفكرة المجازية او الصورية. الاول يعتمد على قوانين العقل و البرهان والمحاجة المنطقية والثاني يعتمد على قوانين الذاكرة والخيار و التحريض. والعدوانية في معظم الأحيان تنشأ في المستوى المجازي/الصوري، لذلك – ونعود لسياق فيسبوك – فإن صورة لطفلة محترقة أو بيت مهدم في حرب ما على حائط الأخبار الخاص بفرد أو شخصية اعتبارية “بطل” ما ستستدعي مجال المجاز والذاكرة وستحرك جمهورا واسعا بفعل محركات بدائية بسيطة.

أبحاث فرويد في هذا المجال تستدعي اهتماما خاصا. نظرية فرويد الخاصة بعلم نفس الجماهير تدور حول فكرة أساسية هي أن عضوية الفرد في جماعة أو جمهور تساهم في فتح مغاليق اللاوعي. يحدث ذلك حين تحتل شخصية  “البطل” خانة السوبر ايغو Super Ego وبذلك فهي تحتل المركز الأخلاقي للوعي.إذا، الجماهير تصنع “بطل” فيسبوك؛ ذلك البطل قد يتمثل بأي شخص يستخدم مشاعر بدائية لاستجلاب العطف والجماهيرية بذات الوقت. لذلك فإن ديناميكية فيسبوك في سياق بلاغي دغمائي تصبح بعيدة عن العفوية، ومرتبطة بصناعة مبرمجة هي صناعة الغوغاء. إذا، الجماهير تصنع “بطل” فيسبوك؛ ذلك البطل قد يتمثل بأي شخص يستخدم مشاعر بدائية لاستجلاب العطف والجماهيرية في ذات الوقت. لذلك فإن ديناميكية فيسبوك في سياق بلاغي دغمائي تصبح بعيدة عن العفوية، ومرتبطة بصناعة مبرمجة هي صناعة الغوغاء. يقول ثيودور ادورنو في سياق دراسة سيكولوجيا الجماهير أن القائد (البطل) الذي يزرع فكرة ما بين الجماهير ينزع فرديتهم بحيث ينتهون كوسيط ما بين القائد وفكرته. لذلك تقل حساسية الأشخاص لهوياتهم الشخصية والتفكير العقلاني وتزداد حساسيتهم للمجاز والصورة.

سؤال القيمة  
في ديوان “زواج الجنة والجحيم”، يقول ويليام بليك “متى نظفت أبواب الإدراك، كل شيء سيظهر للإنسان لا نهائيا”. ما الذي يفعله فيسبوك أمام أبواب الإدراك؟ … البعد الخفي ل”الأصدقاء”، الأبعاد المجازية الخادعة  للصورة الأولى، اللغة الشخصية الخارجة عن المنطق، النص خارج التسلسل البنائي العضوي؛ كثيرة شوائب الإدراك في بيئة فيسبوك. الذين يتعاملون مع ميكانيزمات فيسبوك كلعبة في اوقات الفراغ ساذجون؛ فالذي يفلت هنا وهناك على شكل كلمة، جملة، رقم، أو صورة هو نص، نص يحمل قيمة (دولوز، الإختلاف والتكرار). ما هو وزن نص ما؟. ليست هنالك فرص لإيجاد قيمة رمز، أو نص أو ظاهرة دون الرجوع إلى القوة التي تملك ذلك الرمز، وباستطاعتها استغلاله (دولوز، نيتشه والفلسفة). فيسبوك ليس أغورا أثينا، هنالك من يظن أنه كذلك. بالطبع، ثمة متسع للفائدة المعرفية، لكنها ليست حاضرة بلا شوائب.

سؤال الهوية

أين تكمن الحدود إذا بين الأنا والآخر، بين الأنا والجماهير، بين الأنا وصورتها؟. كيف يتشابك العقل مع الصورة؟ وكيف تتشكل الخدعة داخل بذرة الحقيقة؟. قد يعتقد البعض أن أسئلة كهذه تحمل فيسبوك اكثر مما يحمل، لكن هؤلاء مخدوعون؛ فيسبوك الآن يصنع اللغة والصورة. اللغة الشخصية بتعبير فتغنشتاين تدخل منطق الأشياء فتحرف الصورة. أهل فيسبوك يشبهون مساجين أفلاطون إلى حد ما، يتساءلون عن الظلال على جدران الكهف ويتبارون على صحة التفسير. فيسبوك أخرجنا من الحواس، فنحن عبيد البعد الخفي بتعبير هوسرل، البعد الخفي الذي يتكاثر ويتراكم بالمجاز.

ماذا يتبقى إذا؟ ما الذي يعول عليه في  ترسيم حدود الأنا؟. هل أحيا فيسبوك الرب بعد أن قتله نيتشه؟

ليت الفتى حجر  

يبدو لي الآن أن تميم بن مقبل وبعده محمود درويش لم يتكلما في الحنين فقط عندما قالا:

ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ         تنبو الحوادث عنه وهو ملموم (ديوان ابن مقبل)

و

ليت الفتى حَجَر

يا ليتني حَجَرُ … (محمود درويش، ديوان “حصار لمدائح البحر”)

يبدو أنها القصة الوجودية ذاتها: الوجود في الذات، ذلك هو السؤال.

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail