«الدّفاتر السّوداء»: مارتن هايدغر أمام أشباح النازية

Heidegerأيوب المزين من باريس – معركة طاحنة تلك التي تثيرها من جديد العلاقة الإيديولوجية المفترضة بين الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976) ونظام الرايخ الثالث (1933-1945). فقد عادت الساحة الأكاديمية والفكرية الأوربية، الألمانية والفرنسية منها على وجه الخصوص، إلى البحث في ما يعتقد أن تكون أدلة تاريخية على اصطفاف واحد من أهم فلاسفة القرن العشرين إلى جانب هتلر ونظامه ضدّ اليهود. يأتي ذلك بعد نشر أجزاء أخرى من الدّفاتر السّوداء (Schwarze Hefte) التي تشكّل مجموع ما دوّنه هايدغر في مفكّرته الشخصية، من عام 1930 وحتى وفاته، وتضمنّت حسب عدد من المتخصّصين عبارات وأفكاراً معادية للسّامية بشكل “واضح” و”صريح”.
تتكوّن هذه الدفاتر من 33 كنّاشة موزّعة بين «تأمّلات» (Überlegungen) و«ملحوظات» (Anmerkungen)، منها ما كان في حيازة ورثة هايدغر ومنها ما أودع لدى الأرشيفات الأدبية الألمانية. المثير بالنسبة للجزء الأخير من هذه الكراريس هو ظهور شخص إضافي في الحكاية: أستاذ للأدب الألماني بجامعة هيلدسهايم يدعى سيلفيو فييتا، ورث النص عن والدته، عشيقة هايدغر وزوجة إيغون فييتا، أحد تلامذته. وحسب أقوال فييتا، فإنّ العلاقة العاطفية التي جمعت هايدغر بوالدته كانت قد تسبّبت في انفصالها عن أبيه إلى حين وفاتها عام 1959. كما أكّد فييتا على خلو الوثيقة التي بين يديه، ويعتزم بيعها لأرشيفات مارباخ، من أيّ عداء لليهود أو تحريض عليهم أو سخرية منهم.
وإذا كان هايدغر قد شغل منصب عميد لجامعة فريبوخ ابتداءً من سنة 1933، أي في عزّ صعود الفكر النازي، وهو العنصر الأول الذي يقيم عليه خصومه اتهامهم له، فإنّه حافظ في المقابل على علاقته الحميمية بطالبته وعشيقته اليهودية حنّة آرنت من خلال مراسلات تواصلت بينهما حتى بعد هروبها إلى أمريكا، بالإضافة إلى تقديره الكبير لأستاذه اليهودي هوسرل الذي أهداه كتابه الأساسي “الكينونة والزمان” متوجّها إليه بالقول: “إلى إدموند هوسرل، إجلالاً وصداقة”.
بالنسبة للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، في كتابه “هايدغر والسؤال”، فإنّ هايدغر أدان النازية فلسفيا، وبأشكال مختلفة، خاصة من خلال تحذيره من خطر انحراف التقانة نحو تدمير الإنسان. ومشروع هايدغر، حسب دريدا، لا يتضمّن أيّ اتهام للحضارة الرومانية، ولليهودية كديانة، بالسطو على الفلسفة اليونانية الأولى وتحويرها. فكرة كان الفيلسوف عيمانوئيل ليفيناس قد شكّك فيها معتبرا جوهر فكر الكينونة عند هايدغر “تمجيدا للتراث اليوناني بغية مسح التراث اليهودي” على حدّ تعبيره.
من جهته، يستمر أستاذ الفلسفة في جامعة “روون” عمانوئيل فاي في تأويل هذه العناصر على اعتبارها جزءً لا يتجزء من مشروع سياسي ضخم تحالف فيه المفكر مع السلطة. يقول في حوار مع يومية لبيراسيون بتاريخ 26 يناير 2014: “إنّ النصوص الأخيرة التي نشرت تؤكد لنا أنّ محتوى المفاهيم المركزية عند هايدغر، كتلك المتعلقة بالأرض والعالم والتاريخانية، إنّما هو محتوى سياسي صرف لا فلسفي”.
جدير بالذكر أنّ كلاّ من المكتبة الوطنية الفرنسية والمركز الثقافي الأيرلندي بباريس يعتزمان تنظيم ملتقى أوربي تحت عنوان «هايدغر و”اليهود”» من 22 إلى 25 يناير 2015 لتحليل ونقاش مكانة هايدغر في الفلسفة الغربية، وخاصة تأثيره وتأثره بفلاسفة مثل هوسرل وآرنت وماركوس وجوناس وليفيناس وآدورنو وبنيامين ودريدا، إلخ. يجيء هذا النقاش ويحتدم، داخل أسوار الجامعات ومراكز البحث الغربية، في غمرة انتكاسة اليسار في الانتخابات البرلمانية الأوربية، ووسط إشارات سياسية واجتماعية قوية تنبؤ ببلوغ الأحزاب اليمينية والقومية إلى سدّة الحكم في عدد من دول القارة العجوز.
هذا وصدرت نهاية سنة 2012 الترجمة العربية للـ”الكينونة والزمان” (Sein und Zeit)، أحد أهمّ مؤلفات مارتن هايدغر، عن دار الكتاب الجديد، واقعة في 854 صفحة من القطع الكبير، أعدّها وقدّم لها الجامعي التونسي فتحي المسكيني.

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail