أمبرتو إيكو: كل رواية هي سيرة ذاتية

أجرى اللقاء Lila Azam Zanganeh لِيلا أزام زانغانيه. (كاتبة من أصل إيراني نشأت ودرست في باريس، حاليًا تسكن وتعمل في نيويورك).

 

في اتصالي الأول بأمبيرتو إيكو، كان يجلس في غرفة مكتبه بمنزله الريفي ذي طراز قصور القرن السابع عشر، عند التلال الواقعة خارج أوربينو Urbino (شمال شرق إيطاليا)، حيث الساحل الإيطالي المطل على البحر الأدرياتيكي. وأخذ يتغنى إيكو بروعة جمال حمام السباحة بمنزله. لكنه، وكما توقعت، قال بأني سأجد صعوبة في الوصول إليه بسبب منعطفات الجبال. فاتفقت مع إيكو أن نلتقي في شقته الكائنة في مدينة ميلانو.

وصلتُ هناك في أغسطس كانت يوم إجازة فيراغوستو Ferragosto قد بدأت (يوم اجازة يوافق 15 اغسطس يذهب فيه الإيطاليون للبحر)، في ذروة وهج الصيف، بيومٍ كانت فيه الكنيسة الكاثوليكية تحتفل في عيد انتقال العذراء Assumption of the Virgin Mary (انتقال جسد وروح مريم العذراء للسماء يصادف 15 أغسطس ويسبقه صوم أربعين يوما). كانت مباني ميلانو الرمادية تتوهج بالحرارة، وطبقة رقيقة من الغبار سكنت على الأرصفة وبالكاد تستطيع سماع صوت محرك سيارة بالقرب.

وفي المبنى حيث يقطن إيكو، دخلت المصعد الذي أعادني قرنًا كاملاً للوراء، سمعتُ صرير باب يُفتح بالطابق العلوي. طالعني خيال إيكو وهو يقف أمام بوابة المصعد الحديدية:”آآه، وأخيرًا…”

كانت شقته عبارة عن متاهة من الممرات عليها رفوف كتب تصل إلى أعلى نقطة من السقف العالي. يقول إيكو، لديه ثلاثون ألف مجلد وهناك عشرون ألف أخرى بمنزله بالريف. وجدتُ دراسات علمية لبطليموس، وروايات كالفينو، ودراسات في النقد حول أعمال فيرديناد دي سوسير (عالم لسانيات)، وجويس. وأقسام كاملة خُصصت لتاريخ العصور الوسطى و arcane manuscripts (المخطوطات الملغّزة). قد بدت مكتبته تنبض بالحياة، بكتبٍ ملامحها تدلّ على كثرة استعمالها؛ إيكو يقرأ بسرعة، ولديه ذاكرة عظيمة.

في غرفة مكتبه، هناك متاهة أخرى من الأرفف تحوي أعمال إيكو بكل ترجماتها (العربية، الفنلندية، اليابانية… بعد أن أحصيت ثلاثين لغة فقدت العدّ). أشار إيكو إلى كتبه بإشارة عاطفية، يريدني أن ألقي نظرة على كل مجلد، منذ كتاباته الأولى حول نظريات النقد، روايته اسم الوردة، ووصولا إلى آخر عمل له عن القبح Ugliness.

بدأ إيكو مهنته كأكاديمي تخصص في دراسات تاريخ العصور الوسطى والسيميائيات (السيميوطيقا: دراسة أنساق الإشارات والدلالات والرموز). ثم في عام 1980، وفي الثامنة والأربعين من عمره، أصدر روايته: اسم الوردة. وقد لاقت نجاحًا عالميًا، بِيعَ منها أكثر من عشرة ملايين نسخة. تحوّل البروفيسور منذئذٍ إلى أديب مشهور، يطارده الصحفيون لِمَا عُرِفَ عنه من آراء يحتدّ بها، ويُحتكم إليه كمرجع لعلمه الغزير. إلى أن أصبح إيكو واحد من أهم كتّاب إيطاليا الأحياء. ومنذ تلك السنين، واصل كتابة المقالات الأكاديمية، وأعماله الأكاديمية، وكتب أربع روايات عُدّت من الأكثر مبيعًا، منها Foucault’s Pendulum (1988) بندول فوكو، ولهب الملكة لوانا الغامض The Mysterious Flame of Queen Loana (2004)

قادتني سمنة بطن إيكو خلال الممر، بخطواته الزاحفة على الأرضية، اتجهنا إلى غرفة المعيشة. حيث بدت من خلال النوافذ قلعة من القرون الوسطى تطل علينا كشبح عملاق من تحت سماء ميلانو. توقعتُ أن أرى الكثير من التحف والأنتيكات الإيطالية بمنزله، لكنني وجدت أثاثًا حديث الطراز، والعديد من الحاويات الزجاجية بداخلها قواقع بحرية وسلسة مجلات مصورة نادرة، وآلة عودٍ قديمة، ومجموعة من الأسطوانات، ولوحة كولاج من فَرَاشِيّ رسم. “هذه، كما ترين، من أعمال آرمان، أهداها خصيصًا لي..”

جلستُ على الأريكة البيضاء الكبيرة، وانزوى إيكو في مقعده المنخفض ذي الذراعين، وبيده سيغار. يقول لي إيكو بأنه اعتاد أن يدخّن أكثر من ستين لفافة تبغ باليوم، لكن الآن لم يعد يشعل سوى هذا السيغار. حينما بدأت بطرح اسئلتي عليه، عينا إيكو بدأتا تضيقان إلى أصبحتا كخطّينِ من السواد، ويفتحهما فجأة عندما يحين الوقت ليعطي الأجوبة.

“لقد اكتشفت أن لديّ شغف بالعصور الوسطى”، يقول إيكو ويتابع: “بالضبط كما تجدين شخصا لديه شغف بجوز الهند”.

في إيطاليا، يُعرف عن إيكو حبه بالتلاعب بالكلمات، وحسّه الفكاهي، ودعاباته التي يلقيها عند كل انعطافة من عباراته الطويلة. بدأت نبرة صوته تعلو تدريجيًا وهو يتحدث. ثم بدأ يشير إلى عدد من النقاط المهمة، كبروفيسور في محاضرة:

“أولاً: حين كتبتُ رواية اسم الوردة، لم أكن أعلم – وبالطبع لم يكن أحد يعلم – عمّا كتبه أرسطو في كتاب فن الشعر عن الكوميديا. ولكن بشكل ما، خلال مراحل كتابتي للرواية، اكتشفت ذلك الفصل بكتاب أرسطو. ثانيًا: المحقق في الرواية يسأل سؤالاً فلسفيًا مهمًا: “من الذي ارتكب الجريمة؟ “.. لكن حين انتبه إيكو لقدراته الحوارية الذكية، سارع بتقدير مهارته الأكاديمية وتابع يقول: “جيد، جيد، سأضيف ذلك أيضًا…”

بعد ساعتين من الجلسة الحوارية الأولى، جاءنا ماريو آندريوسي مدير دار نشر بومبياني، ناشر أعمال إيكو، وأخذنا لتناول وجبة العشاء. زوجة إيكو، ريناتي راماج Renate Ramage، في الخامسة والأربعين من العمر، جلسَتْ بالمقعد الأمامي بجانب أندريوسي، وجلسنا أنا وإيكو في المقعد الخلفي. إيكو الذي كان قبل دقائق مفعمًا بالحيوية والمزاح، بدا الآن صامتًا متحفظًا. لكن منذ دخلنا إلى المطعم بدا إيكو في مزاج أفضل، وبدأت سلال الخبز تُقدّم لنا، نظر إيكو إلى قائمة الطعام، في حيرة، وحين جاء النادل، طلب إيكو على عجالة طبق كالزوني (أو ساندويتش البيتزا) وكأسًا من الخمر. وقال “أعلم، أعلم، إنها مضرة إنها مضرة..”

اقترب أحد المعجبين من طاولتنا، “هل أنتَ أمبرتو إيكو؟” رفع البروفيسور حاجبيه، وابتسم إليه وصافحه. ثم، وأخيرًا، بدأنا نواصل الحديث، انطلق إيكو بالحديث عن البابا بينيديكت السادس عشرPope Benedict XVI ، وسقوط الإمبراطورية الفارسية، وعن آخر أفلام جيمس بوند. “هل تعلمون؟” قال ذلك بينما هو يغرس شوكته في الكالزوني، “إنني ذات مرة كتبت تحليلاً عن نسق حبكات آيان فليمينغ؟” (مؤلف سلسلة روايات جيمس بوند).

الصحفية:

أين وُلدتَ؟

إيكو:

وُلِدْتُ في مدينة أليساندريا، التي اشتهرت بصناعة قبعات بورسالينو Borsalino.

الصحفية:

أخبرني عن عائلتك التي نشأت فيها؟

إيكو:

كان أبي يعمل محاسبًا، وكان جدّي يعمل منضد حروف الطباعة. أبي هو الابن الأكبر في عائلة مكونة من ثلاثة عشر طفلًا. وأنا أكبر أخوتي كذلك، وكذلك ابني أيضًا أكبر أخوته، وأيضًا أول حفيد لي ولد. لذا، لو وجد أحدهم بالصدفة بأن عائلتي تنحدر من سلالة امبراطورٍ بيزنطي، فهذا سيجعل من حفيدي وليّ العهد حسب ترتيب المُلْك لديهم.

كان لجدِّي تأثيرا كبيرا على حياتي، رغم أنني لم أكن أزوره كثيرًا، لأنه كان يسكن على بعد ثلاثة أميال من مدينتنا، بالإضافة أنه توفيّ حينما كنتُ في السادسة من عمري. كان كل شيء في العالم يثير فضول جدّي، وقد كان يقرأ الكثير من الكتب. الأمر الرائع أنه حينما تقاعد، بدأ يعمل في تغليف الكتب وتنضيدها. فكان لديه الكثير من الكتب بلا أغلفة، ملقيّةً هنا وهناك بكل ركن من شقته، كتب قديمة، كتبٌ مصوّرةٌ جميلة، وطبعات شهيرة تعود للقرن التاسع عشر روايات لـ تيوفيل غوتييه وألكساندر دوما. كانت تلك أول مرة في حياتي أشاهد فيها كتابا. وحين توفيّ جدّي في العام 1938، لم يأتِ الكثير من أصحاب تلك الكتب غير المغلفة ليطالبوا بها، فاضطّرتْ عائلتي لأن تضع كل هذه الكتب في صندوق كبير. وبالصدفة البحتة، حلّ هذا الصندوق الكبير في قبو منزلنا. ولأن والديّ كانا يطلبان مني النزول إلى القبو من وقت لآخر، لأحضر بعض الفحم أو زجاجة نبيذ، في أحد تلك الأيام فتحتُ ذلك الصندوق ووجدتني أمام كنزٍ ثمين من الكتب. منذ ذلك الحين بت أنزل القبو بشكل متكرر. واكتشفت أن أبي كان يجمع أعداد من مجلة رائعة: (مجلة الرحلات والمغامرات البرية والبحرية المصورة)، وهي مخصصة للقصص الغريبة التي تدور في براري متوحشة في بلدانٍ بعيدة مدهشة. كانت تلك أول وأعظم غزواتي في عالم القصص. لكن لسوء الحظ، مع مرور الوقت، فقدتُ كل هذه الكتب والمجلات، ولا زلت منذ عقود طويلة أحاول اقتناء نسخًا منها من المكتبات القديمة، وأسواق السلع المستعملة.

الصحفية:

إن كنتَ لم ترَ كتبًا إلا عند جدّك، فهل هذا يعني أن والديك لم يمتلكا كتب؟

إيكو:

يبدو الأمر غريبًا، بالرغم من أن أبي كان يقرأ بجدية في فترة شبابه. ولكن لأن عائلته كانت تعيل ثلاثة عشر طفلاً، فمن الصعوبة أن يقتني أبي الكتب. إذ كان أبي يذهب لأكشاك باعة الكتب ويقف ليقرأها بالشارع. وحين كان بائع الكتب يتضايق من وقوف أبي هكذا دون أن يشتري شيئًا، كان يذهب للكشك التالي ويتابع قراءة نفس الكتاب، وهلم جرّا. تلك ذكريات لا يمكنني نسيانها، وأعني الإصرار على ملاحقة الكتب. أمّا في منزلنا، فلم يكن هناك سوى القليل من الروايات. لكنها لم تكن على رفّ، بل في خزانة مقفلة. وأحيانًا كنت أجد أبي يقرأ روايات استعارها من اصدقائه.

الصحفية:

ما كان رأي والدك حين اصبحت أكاديميًا في سن مبكرة؟

إيكو:

في الحقيقة، أبي توفي مبكرًا، ذاك في العام 1962، لكن ليس قبل أن أصدر بعض الكتب. كانت كتبًا أكاديمية صِرفة، أظن أبي لم يفهمها، لكني اكتشفت في ذلك المساء أنه حاول قراءتها فعلاً. كتابي الأثر المفتوحThe Open Work نُشرَ قبل وفاة أبي بثلاثة أشهر، وقد كتب الشاعر الإيطالي العظيم أوجينيو مونتاليEugenio Montale نقدًا عن الكتاب في صحيفة (مراسل المساء) . كانت مقالته مثيرة للفضول، حميمة، وبذيئة في وقت واحد، لكن كفى أن مونتالي هو من كتبها، وأعتقد لا شيء سيُرضي أبي أكثر من أن مونتالي يكتب عني. بشكل ما لقد أدّيت واجبي، ففي النهاية أشعر أنني حققت ما يتمناه أبي، رغم أنني أعتقد أن رواياتي كانت ستبهجه أكثر.

بينما أمي عاشت عشر سنين بعد أبي، فهي كانت تعلم بأنني كتبت العديد من الكتب الأخرى، وأنني دُعيت لإلقاء محاضرات في جامعات خارج إيطاليا. رغم أنني لستُ متأكدًا من أنها تعي ما يدور حولها بسبب مرضها، إلا أنها كانت سعيدة من أجلي. وأنتِ تعلمين، كيف تفخر الأم بابنها، حتى وإن كان ابنها أحمقًا تمامًا.

الصحفية:

كنتَ طِفلاً حين انتشرت الفاشية واندلعت الحرب، كيف كانت تلك الفترة بالنسبة إليك؟

إيكو:

كانت تلك أوقاتًا جدُّ غريبة. كان موسوليني شخصية كاريزمية فاتنة. وكبقية أطفال المدارس حينذاك، انتميت لحركة الشبيبة الفاشية. وكان لزامًا علينا أن نرتدي زيًا عسكريًا موحدًا، وحضور التجمعات الحزبية كل سبت، كنا نشعر بالسعادة حين نقوم بذلك. أما اليوم، فالأمر أشبه بأن تجعل طفلاً أميركيًا يرتدي زيّ جندي في القوات البحرية. سيبدو الأمر مسليًا بالنسبة لطفل. ولكن كأطفال بذلك الوقت، كنا نمارس كل ذلك بعفوية، وبدا هذا شيء طبيعي بالنسبة إلينا، كالثلج في الشتاء، والحرارة في الصيف. حتى أنني لا زلت أتذكر الغارات والقصف، وتلك الليالي الحميمية التي كنا نقضيها في الملجأ. بعد ذلك حين انتهى كل شيء في العام 1943، ومع الهزيمة الأولى للفاشية، وجدت في صحف الديموقراطيين آراءً جديدة وأحزاب سياسية أخرى. ولكي نهرب من القصف الذي بدأ من سبتمبر 1943 إلى إبريل 1945 – أكثر السنين دمارًا على بلادنا- اتجهنا أنا وأمي وأختي إلى الريف لنسكن في مونفيراتو، قرية في إقليم بييومنتي بشمال إيطاليا. حيث تمركزت المقاومة.

الصحفية:

وهل رأيت أيًا من تلك المعارك؟

إيكو:

أتذكر تبادل إطلاق النار بين الفاشيين وحركة المقاومة، وكيف كنت أتمنى لو أشارك في الاشتباكات. وأتذكر أيضًا، أن رصاصة كادت تقتلني، وكيف رميتُ بنفسي من الشرفة على الأرض متفاديًا إياها، ونجوت. بعد ذلك، ومن قريتنا التي نقيم فيها، أتذكر كل أسبوع كيف كانت أليساندريا تُقصف، حيث كان ما زال أبي يعمل. كانت السماء تنفجر كبرتقالة، وخطوط الهاتف الأرضية تتعطل. لذا كنا ننتظر عودة أبي في نهاية الأسبوع لنتأكد بأنه لا يزال على قيد الحياة. خلال تلك الفترة، كان على أي شاب يسكن الريف أن يتعلم كيف ينجو من الموت.

الصحفية:

هل كان للحرب أثر على قرارك بأن تكتب؟

إيكو:

كلا، ليس هناك علاقة. لأني بدأت الكتابة قبل الحرب، وبشكل مستقل عن الحرب. ففي فترة مراهقتي كنت أصنع مجلات مصورة أبتكرها من خيالي، لقد كنت أقرأ الكثير منها. وأكتب روايات خيالية تدور أحداثها في ماليزيا ومجاهل أفريقيا. كنت مهووسًا بأن تكون كتبي مصورةً ومتكاملة بكل تفاصيلها، كي تبدو كما الكتب الحقيقية. فقد كنت أكتبها بأحرف كبيرة، وأبتكر عناوين للصفحات، وملخصات، ورسومات توضيحية. كان الأمر منهكًا، لدرجة أنني لم أتمّ أيًا منها. كنت أعظم كاتب للكتب غير المنجزة بلا فخر. في كل حال، من الواضح أنني منذ بدأت كتابة الروايات، باتت ذكرياتي عن الحرب تلعب دورًا مهمًا في الأحداث. وأظن كل شخص منا تستحوذ عليه ذكريات الطفولة.

الصحفية:

هل عرضت تلك الكتب – غير المنجزة – على أحد؟

إيكو:

من المحتمل أن والديّ اطلعا على ما كنت أفعله. لكني لا أتذكر أني أعطيت أحدًا آخر تلك الكتب. وهذه أحد عيوب أن يحيا المرء في عزلة.

الصحفية:

لقد تحدثتَ من قبل عن محاولاتك في كتابة الشِّعر بتلك الفترة، ففي مقالة لك عن الكتابة قلتَ:” إنّ أشعاري لها الوظيفة نفسها والشكل نفسه لبثور الشباب”!

إيكو:

أعتقد بأنني كتبت الشعر في سن الخامسة عشر أو السادسة عشر، حينها بدا الشِّعرُ كالاستمناء. لكن الشعراء الحقيقيين حينما يتقدمون في العمر يحرقون قصائدهم المبكرة، والشعراء السيئون ينشرونها. ولله الحمد، تخليت عن الأشعار في سن مبكرة.

الصحفية:

من الذي شجّعك في بداياتك مع الكتابة؟

إيكو:

جدّتي، لأنها كانت قارئة نهمة. لم تتم الصف الخامس من الدراسة لكنها كانت عضوًا في المكتبة العامة، فكانت تأتي بكتابين أو ثلاثة كل أسبوع من أجلي. أحيانًا أحصل على رواية رخيصة، وأحيانًا أخرى رواية لبلزاك. لم يكن هناك فرق كبير بالنسبة لجدتي، فجميع الكتّاب عندها مدهشين.

بينما أمي، من الجهة الأخرى، كانت قد درست الكتابة باللمس (الكتابة دون النظر إلى الأحرف في مفاتيح الطابعة). تعلّمَتْ اللغة الفرنسية، والألمانية، ورغم أنها كانت تقرأ الكثير في شبابها، لكنها لاحقًا، كلما تقدم بها العمر، بدت تميل للروايات الرومانسية أكثر، والمجلات النسائية. وأنا لم أكن أقرأ ما كانت تقرأه أمي. لكنها كانت تتحدث الإيطالية بنبرة عذبة، ولديها أسلوب جميل بالكتابة، جعل كل معارفها يلجؤون إليها لتكتب رسائلهم. رغم أنها تركت المدرسة في سن مبكرة، لكنني لازلت أذكر إحساسها الجميل تجاه اللغة والمفردات، وأعتقد بأنني ورثت الكتابة عنها بشكل ما.

بطريقة ما، أعتبر كل رواية هي سيرة ذاتية. حينما نبتكر شخصية روائية، فنحن بشكل ما نسبغ عليها بعض من حياتنا الخاصة.
بطريقة ما، أعتبر كل رواية هي سيرة ذاتية. حينما نبتكر شخصية روائية، فنحن بشكل ما نسبغ عليها بعض من حياتنا الخاصة.

الصحفية:

إلى أي مدى تعتبر رواياتك هي سيرتك الذاتية؟

إيكو:

بطريقة ما، أعتبر كل رواية هي سيرة ذاتية. حينما نبتكر شخصية روائية، فنحن بشكل ما نسبغ عليها بعض من حياتنا الخاصة. فنعطي هذه الشخصية جزء منا، ونعطي تلك جزء آخر منا. بهذا لا أراني أكتب سيرتي الذاتية بشكل مباشر، لكن سيرتي الذاتية تصبح مضمّنة في الراوية. وهناك فرق.

الصحفية:

هل هناك أحداث من حياتك كتبتها بشكل مباشر في إحدى رواياتك؟ وأعني حين أفكر في شخصية Belbo الذي يعزف الترومبيت في المقبرة في رواية بندول فوكو.

إيكو:

ذلك المشهد بالتحديد جزء من سيرتي الذاتية. لكنني لست Belbo. هذا الموقف حدث لي وكان من الأهمية أنه يُظهر جزءًا مني لم أكشف عنه من قبل. منذ ثلاثة شهور مضت، ابتعت آلة ترومبيت حسنة الجودة بما يقارب ألفي دولار. فقط لأعزف عليها، على المرء أن يدرّب شفتيه على هذه الآلة لمدة طويلة. أتذكر حينما كنت في الثالثة عشر أو الرابعة عشر من عمري كنت أعزف بمهارة على الترومبيت، لكني الآن فقدت المهارة، إذ أصبحت أعزف بشكل سيء جدًا. رغم ذلك لا زلت أستمر بالعزف يوميًا. والسبب في هذا أنني أريد العودة لطفولتي. آلة الترومبيت بالنسبة لي تمثل المرحلة التي كنت فيها شابًا. لا أميل كثيرًا لآلة الكمان، لكني حين أنظر للترومبيت أشعر بعالم من الإثارة يتدفق في دمي.

الصحفية:

هل تستطيع أن تعزف تلك الألحان التي كنت تعزفها بأيام شبابك؟

إيكو:

كلما عزفت أكثر، كلما تذكرت تلك الألحان. بكل تأكيد هناك تلك النغمات العالية، إنها صعبة جدًا. أحاول أتدرّب على عزفها مرات عديدة، وأقول أحاول. لكن فيما يبدو أن شفَتَيّ لا تعملان بالطريقة الصحيحة في عزف تلك النغمات.

الصحفية:

هل الشيء نفسه يحدث لذاكرتك؟

إيكو:

الأمر وإن بدا غريبًا، لكني كلما طعنت بالسن، كلما أراني أتذكر أكثر. سأعطيكِ مثال على ذلك: اللهجة التي كنت أتكلم بها هي لهجة الإليساندرينو. لهجة جبال البييومينتي المهجنة تمازجها نبرات ليومباردية، وإيميليانية، ومن جينوا. لم أكن أتكلم تلك اللهجات لأن عائلتي كانت تنحدر من سلالة برجوازية صغيرة، وكان أبي يعتقد بأن أختي وأنا لابد نتكلم الإيطالية فقط. لكن بنفس الوقت، والديّ كانا يتكلمان فيما بينهما باللهجات التي يعرفانها. كنت أفهم اللهجة التي يتحدثان بها جيدًا، لكنني كنت أعجز أن أتكلمها. بعد مضيّ نصف قرن، فجأة وبلا مقدمات بت أتكلم الإليساندرينو بطلاقة، لا أعلم جاءتني من اللاوعي أم من معدتي، ذاك حين كنت ألتقي بأصدقاء طفولتي من أليساندريا، كنت أكلمهم بها!

مع مرور الوقت، اتضح بأنني لست قادرًا فقط على استعادة أشياء نسيتها، بل وأشياء كنت متأكدًا أنني لم أتعلمها.

الصحفية:

لماذا قررت دراسة جماليات (علم جمال) العصور الوسطى؟

إيكو:

كان تعليمي كاثوليكيًا. وخلال فترة دراستي الجامعية، تعرفت على تنظيم طلبة الكاثوليك الوطنية. وكنت معجبًا في أفكار العصور الوسطى والفترة المبكرة من المسيحية. فقدمت أطروحة عن علم الجمال لدى توما الأكويني، لكن قبل ذلك كان إيماني قد تزعزع. كانت تلك الأيام فترة اضطرابات سياسية. حيث وجدتني أميل أكثر للجانب الطليعي من المنظمة الطلابية مهتمًّا أكثر في المشاكل الاجتماعية، والعدالة الاجتماعية. وكان حزب اليمين مدعومًا من البابا بيوس الثاني عشر. وفي يومٍ ما تلقّى الجناح الذي أنتمي إليه في المنظمة الطلابية اتهامًا بأننا مهرطقين وشيوعيين. حتى أن صحيفة الفاتيكان الرسمية هاجمتنا. هذا الموقف أطلق العديد من الأسئلة الفلسفية برأسي وجعلني أعيد النظر في إيماني. لكن دراستي للعصور الوسطى وفلسفتها لم تتأثر بذلك. ولا داعي للذكر بأني تابعت دراسة توما الأكويني المحبب لقلبي.

الصحفية:

في خاتمة روايتك اسم الوردة، كتبتَ “أرى الحقبة بكل مكان، وتشمل بوضوح اهتماماتي اليومية، التي لا تبدو قروسطية، لكنها كذلك..” كيف تبدو اهتماماتك القروسطية؟

إيكو:

طوال حياتي كلها انغمست في دراسة تلك الحقبة. على سبيل المثال، ولتحضير أطروحتي، ذهبت مرتين في رحلات دامت شهورًا إلى باريس، للبحث في المكتبة الوطنية هناك. فقررت في تلك الرحلات، أن أعيش في القرون الوسطى، ذاك لو أنك قلّصت خريطة باريس، واخترت شارعًا واحدًا. حينها سيبدو الأمر وكأنك تعيش في القرون الوسطى. وثم تبدأ بالتصرف والتفكير كرجل يعود لتلك الحقبة. على سبيل المثال، أتذكر أن زوجتي التي تعرف كل شيء عن النباتات والزهور في العالم. كانت تتقرّب مني في فترة كتابتي اسم الوردة لأني لا أهتم كثيرًا بالطبيعة. كنت وإياها في الريف ذات مرة، وقد أشعلنا نارًا، فصاحت زوجتي لي، انظر إلى لهب النار يتطاير عاليًا حولنا بين الأشجار. بالطبع لم أعر المنظر أيّ اهتمام. لاحقًا، حينما قرأتْ زوجتي آخر فصل من رواية اسم الوردة، حيث أصف منظرًا مشابهًا، قالت لي، إذن رأيتَ اللهب يتطاير! فقلت لها، كلا، لكنني أعرف كيف راهب من القرون الوسطى سيتأمل المنظر.

الصحفية:

هل تظن أنك كنت ستستمتع لو عشتَ في القرون الوسطى؟

إيكو:

حسنًا، لو كنت عشتُ بتلك الحقبة وبعمري هذا الآن، لكنت ميتًا قبل أن أبلغ هذه السنّ. أشكّ أنني لو عشت في القرون الوسطى بأن مشاعري عن تلك الفترة ستكون مختلفة تمامًا عما هي عليه الآن. لذا أفضّل أن أتخيل بدلاً من أن أعيش فيها حقيقة.

الصحفية:

بالنسبة لفرد عادي يعيش في تلك الحقبة كانت تحيط به أجواء الغموض والعزلة. ما الذي أعجبك بهذا؟

إيكو:

من الصعب أن أشرح لك ذلك. لكن، لماذا نقع في الحب؟ لو اضطررت للشرح لكنتُ قلتُ بأن تلك الفترة هي كل شيء يتخيله الناس عنها الآن. فبالنسبة لي، لم تكن تلك الحقبة عصور ظلام. بل كانت عصور النور. وأنها الفترة التي عمِلَتْ على تكوين تربة خصبةٍ مهّدت لربيع عصر النهضة لاحقًا. حقبةٌ من الفوضى وحماسة الانتقال من العصر القديم إلى العصر الجديد، منها جاء ميلاد المدينة الحديثة، ونظام المصارف، والجامعة، وميلاد فكرتنا المعاصرة عن أوربا بلغاتها وشعوبها وثقافاتها.

الصحفية:

في كتبك تقول بأنك لا تضع تمييزًا بين القرون الوسطى والعصر الحديث، لكن هذا فيما يبدو جزء من اعجابك بتلك الحقبة.

إيكو:

بالتأكيد، لكن المرء يجب أن يكون حذرًا جدًا في المقارنات. ذات مرة كتبت مقالة قارنت فيها بين العصور الوسطى وعصرنا. لكن لو أعطيتِني خمسين دولارًا، سأكتب لكِ مقالة أقارن فيها بين زمننا المعاصر وبين انسان النيانديرتال (جنس من الانسان الأول استوطن أوربا واجزاء من آسيا وانقرض لاحقًا). من السهل جدًا أن نجد أفكارًا نقارنها ببعض، رغم ذلك أعتقد بأن الاهتمام بالتاريخ، أن تقيم مقارنات أكاديمية مع أزمنتنا المعاصرة. اعترف بأنني شخص “دقة قديمة” بشكل بشع، لكني لا زلت أؤمن كما قال Cicero (سيسرو): التاريخ أفضل معلم في الحياة.

الصحفية:

في بدايات دراساتك الأكاديمية كشاب لماذا اتجهت فجأة لدراسة اللغات؟

إيكو:

حسبما أتذكر، كنتُ مهتمًا في تفسير وسائل الاتصال. في علم الجمال، السؤال كان، ما العوامل التي تصنع العمل الفني، وكيف العمل الفني يتواصل معنا؟ أصبحتُ مهتمًا في الـ “كيف” هذه. بالإضافة، وبفضل صفاتنا الإنسانية.. لا زال بمقدورنا أن نبتكر اللغة. وكما اتضح لي، بعدما أنهيت أطروحة أثناء عملي في التلفزيون الإيطالي. وذاك في العام 1954، أي بعد شهور قليلة فقط من أول بث تلفزيوني. كان ذلك بداية عصر وسائل الاتصال المرئية في إيطاليا. فبدأتُ أتساءل، إن كنت أعاني من انفصام غريب في شخصيتي. إذ فمن ناحية، أراني مهتمًا بالفن والأدب التجريبي، ومن ناحية أخرى لديّ ذلك الشغف بالتلفاز، والقصص المصورة، وروايات المحققين والجريمة. بطبيعة الحال، تساءلتُ، هل هناك احتمال أن تكون اهتماماتي مرتبطة ببعضها وليست متنافرة؟

فاتجهت لدراسة السيميائيات لأني كنت أريد توحيد كل مستويات اختلاف الثقافة. واتضح لي أنّ أيّ شيء تبثه وسائل الاتصال بالإمكان أن نضعه تحت مجهر التحليل الأكاديمي.

الصحفية:

قلتَ ذات مرة أن السيميائيات هي نظرية الكذب.

إيكو:

بدلاً من كلمة “كذب”، كان يجب أن أقول “كل ما هو عكس الحقيقة”. باستطاعة الإنسان أن يسرد حكاية خيالية، ويتخيل عوالم جديدة، ويرتكب الأخطاء، وأيضًا يستطيع الكذب. اللغة تشمل كل ما فات.

الكذب صفة يختص بها الإنسان وحده. فالكلب الذي يسير مدفوعًا بأثر رائحة. لا يمكن أن يكذب، ولا الرائحة بإمكانها أن تكذب كذلك. لكن بإمكاني أن أكذب عليك وأخبرك أن تذهب بهذا الاتجاه أو الطريق، والذي هو ليس الطريق الذي سألت عنه، رغم ذلك ستصدقني وستسلك الطريق الخاطئ الذي أشرت لك عليه. أما سبب ذلك فيعود لكوننا نعتمد على الدلالات.

الصحفية:

بعض أعداء السيميائيات كمجال للدراسة، يضمنّون أن المتخصصين في هذا العلم يتسببون في إلغاء كل الواقع.

إيكو:

هذا موقف اصحاب المذهب المدعو بـ”التفكيكية”. إذ ليس فقط أن أصحاب هذا المذهب يفترضون كل شيء عبارة عن نصّ – بما ذلك الطاولة التي نجلس عليها الآن – وأن كل نصّ بالإمكان تفسيره بتفسيرات لا متناهية. لكن أصحاب هذا الاتجاه أيضًا يتبعون فكرة جاء بها نيتشه، والتي تقول بأنه ليس هناك حقائق بل مجرد تأويلات. على العكس من هذه الفكرة، أتبعُ تشالز ساندرز بيرس، الذي كان بلا شك أعظم فيلسوف أمريكي وهو من أسس السيميائيات ونظرية التأويل. فهو من يقول بأننا نفسر الحقائق عبر الدلالات. إن لم تكن هناك حقائق، وفقط تأويلات، فماذا سيتبقى لنفسره؟ هذا ما ناقشته في كتابي (حدود التأويل).

الصحفية:

في كتابك بندول فوكو كتبتَ “كلما كان الرمز غامضًا ومبهمًا، تزداد أهميته وقوته.”

إيكو:

السر يكتسب قوته حين لا يحتوي على معنى. الكثير من الناس يأتون على ذكر “أسرار الماسونية”. بحق الله ما هي أسرار الماسونية تلك؟! لا أحد لديه الجواب. ما دام السر يبقى فارغًا من معنى ودلالة، فبالإمكان أن نملأه بكل الاحتمالات والتخمينات، ومنها يكتسي هذه الهالة من الغموض.

الصحفية:

هل بإمكاننا القول بأن عملكَ كمتخصص في السيميائيات، غير مرتبط تمامًا بعملك كروائي؟

إيكو:

يبدو الأمر مدهشًا، فأنا لا أفكر أبدًا في تخصصي في السيميائيات حين أكتب رواياتي. فبعد أن أنهي رواية أترك الآخرين يتممّون العمل المتبقي. ودائمًا أندهش من محصلة النتيجة النهائية بعد أن تطبع الرواية.

الصحفية:

هل لا زلت تشاهد التلفاز بكثرة؟

إيكو:

أشكّ أن ليس هناك أكاديمي واحد لا يحب مشاهدة التلفاز. سوى أنني الوحيد الذي يعترف بذلك. وإني أستعين بالمواد المتلفزة كمادة لعملي. لكنني لست من النوع الذي يشاهد التلفاز بنهم، فليست كل البرامج تجعلني استمتع. أحب المسلسلات الدرامية، وأكره البرامج الحوارية السخيفة.

الصحفية:

لكن هل هناك أيّ برامج تحبها؟

إيكو:

المسلسلات البوليسية، ستاركي وهاتش Starky & Huthch، على سبيل المثال.

الصحفية:

هذا المسلسل ما عاد يعرض الآن. إنه يعود لفترة السبعينيات.

إيكو:

أعلم ذلك. لكن أخبروني أن جميع حلقات المسلسل باتت متوفرة على اقراص الفيديو المدمجة، وإني أفكر أقتني المجموعة كلها. عدا ذلك فهناك: CSI Miami، Miami Vice، ER، وأحبهم إلى قلبي Columbo.

الصحفية:

هل قرأت رواية شيفرة دافنشي؟

إيكو:

أجل، ولا أظنني مذنب بهذا أيضًا.

الصحفية:

رواية شيفرة دافنشي تبدو قريبة من أجواء روايتك بندول فوكو.

إيكو:

دان براون يبدو وكأنه شخصية من روايتي: بندول فوكو! أنا ابتكرته. دان براون يتقاسم الكثير من الفضول مع شخصياتي عن عالم نظرية المؤامرة والمنظمات السرية مثل الصليب الوردي Rosicrucian’s، الماسونية، واليسوعيين Jesuits. وفرسان الهيكل Knight Templar. والأسرارالهرمسية Hermetic Secrets (كتاب منحول ينسب إلى هرمس رسول الآلهة عند الإغريق). ومبدأ أن كل شيء متصل ببعضه البعض. بل أنني أتشكك بأن دان براون نفسه موجود!

الصحفية:

فكرة أن تأخذ فرضيّة خيالية بجدية، يبدو واضحًا في الكثير من رواياتك. حتى الخيال يستمد مادته من الحقيقة والواقع.

إيكو:

أجل، بإمكان الخيال أن يخلق الواقع. (باودولينو)، روايتي الرابعة، تتحدث عن هذه النقطة بالذات. باودولينو شخص مخادع يعيش في بلاط فريدريك بارباروسا، الإمبراطور الروماني المقدس. وهذا الصبي باودولينو يبتكر أشياء كثيرة من خياله، من أسطورة الكأس المقدسة، إلى شرعية حكم بارباروسا على يد قضاة بولونيا. وبسبب ما يفعله فهو يجلب على نفسه العواقب الوخيمة. لأن الخداع والزيف بإمكانه أن يولّد أحداثًا تاريخية حقيقية. مثل تلك الرسالة من بريستر جون: كانت رسالة مزورة – وفي روايتي لم يكتبها أحد إلا باودلينو نفسه- لكنها رسالة شجعت على رحلات اكشاف آسيا في العصور الوسطى، لأنه في الرسالة المذكورة، كان هناك وصف لمملكة مسيحية رائعة في بداية نشوئها في مكان ما من الشرق الغامض.

لنأخذ كريستوفر كولومبوس الذي كان ينظر لكروية الأرض بشكل خاطئ. فهو كان يعلم جيدًا، كما كان أعداؤه جميعهم يدركون بأن الأرض كروية. لكن كولومبوس كان يعتقد بأن الأرض أصغر حجمًا. باندفاعه خلف هذه الفكرة الخاطئة، اكتشف قارة أمريكا. ومثال آخر مشهور: بروتكولات حكماء صهيون. إنها مزيفة، لكن هذه البروتوكولات أسست ودعّمت فكر الحزب النازي، وبشكل ما دفعت إلى محرقة اليهود. لأن هتلر استعان بوثيقة البروتوكولات ليبرّر بها إبادة اليهود. ربما كان يعلم أنها وثيقة مزيفة، لكن في قرارة نفسه، الوثيقة وصفت اليهود كما هو يريد أن يصفهم. ولهذا اعتبرها وثيقة حقيقية.

بإمكان الخيال أن يخلق الواقع
بإمكان الخيال أن يخلق الواقع

الصحفية:

شخصية باودلينو تصرّح في نهاية الرواية بأن “مملكة المسيح حقيقية لأنني ومن معي قضينا ثلثي أعمارنا نبحث عنها.”

إيكو:

باودلينو مزوّر وثائق، مبتكر مدن طوباوية، يشيد خطط خيالية عن المستقبل. أكاذيبه تحولت إلى حقيقة منذ أن انطلق أصدقاؤه بكل سعادة فعليًا في رحلة إلى الشرق الساحر. لكن هذا فقط جانب واحد من السرد. بينما الجانب الآخر الذي بإمكاننا أن نستخدمه كحقائق، أنه في إطار الرواية ككل، يبدو الأمر لا يصدق ومجرد خيال محض. في رواياتي، استعنت بالكثير من القصص الحقيقية، والمواقف الحقيقية، لأنني أجدها أكثر رومانسية، أو لنقُل روائيةً أكثر من كل شيء قرأته وينتمي لجنس الأدب. على سبيل المثال في رواية (جزيرة اليوم السابق)، هناك ذلك المشهد حيث الأب كاسبار يصنع مرصادًا غريبا ليرصد أقمار كوكب المشتري، هذا الابتكار تحول لكوميديا. لأن هذا الاختراع، قد وصفه غاليليو في رسائله، وكل ما فعلته ببساطة أنني تخيلت ماذا لو أنّ اختراع غاليليو تم صنعه بالفعل. لكن قرّائي أخذوا كل هذا كاختراع مضحك.

الصحفية:

ما الذي يدفعك لكتابة روايات مبنية على أحداث تاريخية؟

إيكو:

الرواية التاريخية ليست مجرد رواية متخيلة لأحداث حقيقية، إنما رواية تساعدنا على فهم حقيقة التاريخ. بالنسبة لي أحب أن أزاوج بين الرواية التاريخية وعناصر أخرى من نوع رواية: Bildungsroman (روايات تعالج الشخصية الرئيسية منذ نشأتها مرورًا بالتطورات المهمة التي أدت لنضوجها فكريًا). في كل رواياتي، هناك دائمًا شخصية تنضج وتتعلم وتتألم خلال مرورها بالعديد من تجارب الحياة.

الصحفية:

لمْ تبدأ الكتابة الروائية إلا حين بلوغك الثامنة والأربعين، لماذا؟

إيكو:

كتاباتي الروائية لم تكن قفزة مفاجئة كما يظن الكثير، لأنني حتى وفي رسالة الدكتوراه، أو في النظريات التي أقدّمها، كنت أكتب ما يشبه السرد الروائي. فكّرت كثيرًا حول ما يكتبه الفلاسفة في كتبهم، وجدت في أساس كتاباتهم إنما يسردون قصة بحثهم، مثلما بالضبط حين يشرح العلماء كيف تمكنوا من التوصل إلى اكتشافاتهم المهمة. أظن أنني (في كتاباتي الأكاديمية) كنت أسرد القصص طوال الوقت، سوى أنني كنت أسردها بطريقة مختلفة قليلاً.

الصحفية:

لكن ما الذي دفعك لكتابة رواية؟

إيكو:

في يوم ما من عام 1978، صديقة لي قالت بأنها تريد أن تشرف على طباعة سلسلة من الروايات البوليسية يكتبها كتّاب هواة. قلت لها من المستحيل أن أكتب رواية بوليسية، لكن لو كتبتُ واحدة، فستكون من خمسمئة صفحة وشخصياتها رهبان من العصور الوسطى. في ذلك اليوم، وبينما كنت عائدًا إلى المنزل، بدأت بتدوين قائمة بأسماء وهمية لرهبان. لاحقًا، قفزت بذهني صورة راهب مسموم. كل شيء بدأ من تلك اللحظة، من تلك الصورة الوحيدة. بعدها أصبح الأمر ضرورة ملحّة.

الصحفية:

تعتمد الكثير من رواياتك على مفاهيم ذكية. هل هذا شيء طبيعي لتربط بين ما هو أكاديميّ وما هو روائيّ في كتاباتك؟ فأنتَ قلت ذات مرة “الأشياء التي نعجز عن التنظير لها أكاديميًا، يجب أن نسردها في رواية”.

إيكو:

هذه مزحة ألمّح فيها لجملة قالها Wittgenstein (لودفيغ فتغنيشتاين فيلسوف نمساوي). الحقيقة هي، كتبت الكثير من المقالات في السيميائيات، لكن أظنني عبّرتُ عن أفكاري بشكل أوضح في رواية بندول فوكو أكثر مما فعلته في مقالاتي الأكاديمية. كل فكرةٍ مهما بدت أصيلة، تأكد بأن أرسطو توصل لها قبل منك. لكن كتابة رواية حول تلك الفكرة ستجعلها تبدو أصيلة ومبتكرة. (مثلاً) الرجال يحبون النساء، هذه ليست بفكرة أصيلة، لكن، لو استطعت بشكل ما أن تكتب رواية رائعة عن هذا المعنى، حينها بخدعة أدبية ساحرة ستتحول إلى فكرة مبتكرة. في نهاية الأمر، وبكل بساطة أؤمن أن القصة أكثر ثراءً – لأنها فكرة يعاد تشكيلها إلى حدث، تحكيه شخصيات القصة، ويُسرد بلغة محبوكة. لذا بطبيعة الحال، حين تتحول الفكرة لكائن حي، تصبح شيئًا مختلفًا تمامًا: كيان له القدرة على التعبير.

من الناحية الأخرى، التناقض قد يكون من أساس الرواية. فقتل شخصية امرأة طاعنة بالسن يبدو ممتعًا. إنما بفكرة كهذه، ستنال معدلF” ” في امتحان علم الأخلاق. لكن في الأدب ستنال على: الجريمة والعقاب. تحفة فنية من النثر، الشخصية فيها تتساءل إن كان قتل امرأة طاعنة بالسن أمرًا جيدًا أم سيئًا، الحيرة في أفكار الشخصية – مع تضارب آرائنا نحن – حينها تغدو مسألة شاعرية وتحدي كبير.

الصحفية:

كيف تستخدم البحث في كتابة رواية؟

إيكو:

في رواية اسم الوردة، كنت وقتها مهتمًا بالعصور الوسطى، فكان لدي مئات البحوث، فأخذت مني الرواية فقط سنتين لأكتبها. بينما بندول فوكو أخذت مني ثمان سنين من البحث والكتابة! وبما إني متكتّم عادة حول ما أفعله، بت أحيا وحدي في عالمي لعشر سنوات. أخرج إلى الشارع، أرى سيارة، أرى شجرة، وأقول لنفسي: ممم هذا قد يكون له صلة بروايتي. كانت القصة تنمو يومًا بعد يوم، فكل شيء كنت أقوم به، أو أي شيء تافه بالحياة، أو محادثة، كان بالإمكان أن يلهمني بفكرة. ثم قمت بزيارة الأماكن الحقيقية التي كنت أكتب عنها – كل المواقع في فرنسا والبرتغال حيث فرسان المعبد كانوا يعيشون. وتحول الأمر كلعبة فيديو بالنسبة لي، إذ بدوت مثل شخصية محارب ستدخل في مملكة سحرية. إلا أنه في لعبة الفيديو كل شيء يبدو مملاً. بينما أثناء الكتابة، تبدو الأمور أكثر حيوية وإثارة، حيث بلحظة ما، تضطر أن تقفز من عربة قطار سريع، فقط لتقفز عائدًا إليها صباح اليوم التالي.

 

ترجمة : رؤوف علوان – عن تكوين
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail