أدونيس، الذي لا يحبه أحد / أشرف الزغل

قد يبدو العنوان متطرفا بالسياق العلمي لدراسة الحالات واستقراء الأدلة، لكنه ضروري للدلالة على تحالف عاطفي طاغ ضد مشروع فكري مهم عمره يزيد على الخمسين عاما. سأحاول في هذا المقال أن أقارب دلالة هذا العنوان بمراجعة بسيطة لدور المثقف في المجتمع ومكانة الجماهير في رسالته، اضافة لتوصيف مختصر لموقع أدونيس في ذلك المستوى. علي أحمد سعيد “أدونيس” كاتب وشاعر عربي ألف العديد من الكتب في الفكر والشعر وكتب المقالات في شؤون الثقافة العربية. من أشهر كتاباته “الثابت والمتحول” وهيأطروحة الدكتوراه خاصته التي تناولت نقد التراث، تحديد قيم وعناصر التجديد واشكالات الحداثة في مراجعة واسعة للتاريخ العربي مع مقاربات لمستقبل الثقافة العربية.

أدونيس ليس المثقف المفضل للعديد من المثقفين العرب أو بالتعبير الأمريكي “He is not their cup of tea“. يبدو هذا الأمر ماثلا للعيان كلما أتى أدونيس بتصريح مناف للعادة، وأعني بالعادة ما تعارف عليه كتاب الأعمدة والمثقفون الرسميون. لا أعني بالمثقفين الرسميين مثقفي السلطة فأولئك لا شأن لهم بشيء، لكنني أعني المثقفين الذين يطرحون أنفسهم كطليعة ثقافية وهم توابع لمشاعر الجماهير. يسأل سائل: “وما العيب في أن يكون المثقف تابعا للجماهير؟، وربما يقول آخرون  “لا بد للمثقف أن يكون تابعا للجماهير، ينادي بالحرية وقيم العدالة ويقف أمام الطغيان”. لذا علي أن أوضح ما يلي :


الأدب الملتزم هل هو الأدب الجماهيري؟

طبقا لمفهوم الأدب الملتزم كما وضعه جان بول سارتر، الكتابة ك “واقعة اجتماعية” تلزم المثقف “أن يشعر بمدى مسؤوليته ، عن الحروب الخاسرة أو الرابحة ، عن التمرّد والقمع . إنّه متواطئ مع المضطهدين إذا لم يكن الحليف الطبيعي للمضطّهدين”. المثقف بميزان سارتر هو الفرد الذي يقف مع مبادئ الحرية والعدالة في وجه الظلم والاستعباد، وهو مفهوم تناوله جوليان بندا في كتابه “خيانة المثقفين”، حيث يورد بندا أسماء سقراط ويسوع وسبينوزا وفولتير ليحدد نماذج المثقف الملتزم بهذه المبادئ. تعليقا على مفهوم بندا للمثقف، يميز ادوارد سعيد في كتابه “وصف المثقف” بين المثقف كوسيط أخلاقي يحمل مبادئ انسانية سامية وبين المثقف بالمعنى القومي أو الجماهيري أي المثقف الذي يدافع عن مطالب الجماهير ويجعلها مطالبه دون سؤال أو تحليل. فحين يشير بندا الى المثقف كوسيط أخلاقي فإنه لا يعني المثقف الذي ينساق لمشاعر الجماهير أو للشعور الوطني القومي. يذهب ادوارد سعيد عميقا في تبيان دور المثقف “الكاتب” حيث يصف عالم المثقف بمستويين اثنين: مستوى ذاتي خاص يستمد منه المثقف قناعاته الشخصية وتجاربه، ومستوى اجتماعي عام فيه تتفاعل ديناميكيات شعبية شتى. يشدد ادوارد سعيد على أن دور المثقف ليس أرضاء الجمهور بل “أن يكون محرجا، مناقضا، أو حتى مكدرا للجو العام”.

ما يعنيني في هذا المقال هو هذا الفرق بين المثقف كوسيط أخلاقي وبينه كممثل للجماهير، الفرق الذي يبدو ضبابيا في ظروفنا الحالية حيث الانتفاضات الشعبية في العالم العربي في حالة ديناميكية قصوى. لكنه فرق شاسع، ان غاب عن أذهاننا ابتعدنا الى استنتاجات خطرة. لعل من الطريف ذكره في هذا المجال أن أحد المثقفين العرب شبه أدونيس بالقذافي لأن أدونيس يحذر من تداعيات الدين المتطرف في سياق الحراك الشعبي العربي. اذن، حين يقوم أدونيس بدوره كوسيط أخلاقي -من باب الأدب الملتزم- بالتحذير من نظام  متدين رجعي في طور التشكيل فإنه يتهم بتلك التهمة، أدونيس يشبه القذافي؟ طرفة حقيقية!

 

لماذا يكرهونه ؟ – سطوة المغني

أعلن أدونيس في غير مرة أنه ليس شاعرا جماهيريا، بل أنه لا يريد ذلك. ولو تتبعنا مقولاته لفهمنا أين يقع أدونيس من الأعراب، بكسر الهمزة أو بفتحها . أدونيس صاحب فكر قبل أن يكون صاحب شعر فهو فيلسوف قبل أن يكون شاعرا. وهو ليس مغنيا، لذلك فحظوته محدودة، هو نزق، كثير الشكوى، كثير النقد، وهي صفات ليست بالشعبية لكنها وللمفارقة العجيبة احدى السمات الرئيسة للمثقف الحقيقي كما أسلفت. ليست للغناء تبعات فكرية تذكر: ننام على الأغنيات، نثور على وقع الأغنيات، نحب في ظلال الأغنيات. الأغنيات لها فعل المقدس، والمقدس لا مكان له في الفعل النقدي الملتزم بالكشف والمساءلة. وصف أدونيس الشعر العربي يوما أنه “لا يزال ‘ربابة’ و’طنبوراً’ من أجل إطراب ‘الشعب’ وتمجيد ‘الوطن’. يبدو أن الربابة أمتدت أيضا للكتابة الفكرية، فكثير من شعرائنا يكتبون الفكر والسياسة كما يكتبون الشعر، قد تكون نصوصا جميلة لكنها في أغلب الأحيان محدودة الرؤية وفقيرة المنطق.

يبدو واضحا للعيان أنه وبحسب توصيف ادوارد سعيد لعالم المثقف بالمستويين الذاتي والعام، فإن العام هو الذي يحكم دور المثقف في العالم العربي، الجماهير تتمرد والمثقف يغني، الجماهير تنزف والمثقف يبكي أو يكتب القصائد والعرائض. أين العنصر الذاتي في المثقف العربي؟ أين التبرم والشكوى؟ أين النقد؟. كأني أرى المأزق في انعدام دمج الذاتي بالعام عند المثقف العربي، فالعام سهل، معروف، وآمن. بينما الذاتي ملغوم بما لا تحب الجماهير سماعه، مليئ بالهواجس والأخطاء الشخصية، مما يهدد بانحسار تلك الجماهير المثقلة بالعموميات والأحلام الخفيفة. ليست صدفة اذن أن أدونيس ليس سيد المسرح أو ملك المنصة. أدونيس يسكن حيث المختلف حيث اللغة الدقيقة والجديدة بعيدا عن التعميمات واقرب الى الحقيقة. هناك يسكن أدونيس : بين الذاتي والعام وهناك سكن ادوارد سعيد من قبله، فلنحترم أدونيس ولنتعلم منه.

 

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail