«زيطة».. إله المنبوذين

«حسبُه أن يُرى مرة واحدة كيلا يُنسى بعد ذلك أبداً»

في «زقاق المدقّ» يُقدّم نجيب محفوظ زيطة للمرة الأولى كـ «شيء» مكوّم لا يفترق عن أرض المكان قذارة ولوناً ورائحة…! يتضمّن المجال الوصفي لزيطة الخرابة، الظلام، التراب، المزبلة، والقاذورات. زيطة هو روح الخرابة ورمزها وخُلاصة روائحها، لكنه ملكٌ عليها أيضاً، وهو الشخصيّة التي مِن الصعب في قراءتك الأولى لها أن تتوقع ما ستفعله في السطر التالي.

يصف محفوظ السيّد رضوان الحُسيني بابتسامته وبحبه للناس وللدنيا جميعاً، بينما زيطة قد«آثر وحْشة العُزلة على الاستحمام وبادل الناس مقتاً بمقت عن طيب خاطر» مع ذلك زيطة ليس مُمثلاً للشرّ، وليس نقيض السيد رضوان الحسيني الذي أصبح خيّراًهكذا بسبب امتحان الله له بموت أبنائه، فللسيد رضوان أشباه كثيرون في روايات أخرى لمحفوظ بينما زيطة ليس له شبيه والمثير أن محفوظ نفسه يُنبّهنا إلى ذلك «حسبُه أن يُرى مرة واحدة كيلا يُنسى بعد ذلك أبداً».. يتحرّك السيد رضوان الحُسيني وأشباهه في الفضاء الاجتماعي والتاريخي الذي يحظى بالجُهد السرديّ الأكبر، إنها شخصيّات تنتمي لواقع يجب توثيقه بينما لا يتحرّك زيطة إلا إلى الداخل حيث كراهيته للعالم، وفي عالم سُفليّ حيث يُمارس هوايته كإله في تشويه خائبي الرجاء والمنبوذين خارج ذلك الفضاء الاجتماعي العام. لا أعرف شبيهاً لزيطة في كل روايات محفوظ، ليس لأنه غرائبيّ بل لأنه لا يُمثّل إلى نفسه، هو مقصود لذاته، كأنه هبط على زقاق المدق الواقعيّ من الخيال الفريد الآتي من أرض الميثولوجيا حيث من الممكن أن ترى كائناً موهوباً نصفه إنسان يعمل كصانع عاهات، ونصفه الآخر حيوان بدائيّ لا تؤذيه القذارة بقدر ما يُؤذيه البشر.

«بهذا القلب تستطيع أن تواجه الدُّنيا حقاً»

ربما يكون زيطة واحداً من أكثر شخصيّات نجيب محفوظ تحرّراً، ليس تحرّراً من العادات والتقاليد والتوقعات الاجتماعيّة التي تتشكّل منها شخصيّات محفوظ فحسب بل من الحُب والونس والانتماء ومن فكرة الخير والشرّ نفسها. إنه يكره البشر ويفرح عندما يعرف بموت أحدهم حتى يذوق التراب الذي تعالى عليه حيّاً!

في زقاق المدق، حيث لا توجد شخصيّة واحدة تستطيع أن تقول ما تريده، أن تتكلم حقاً حين تتكلم دون أن تلفّ وتدور حول هدفها، زيطة هو الشخص الوحيد الذي لا يُنافق الآخرين. إنه يقول حقّاً ما يعنيه ولكنه لا يحتاج أن يقول الكثيرعادة، كأنه ليس مشغولاً بقول شيء للعالم باستثناء زبائنه. مع ذلك فعندما يتكلّم نرى حكمته التي لا يعي بها ولا تهمّه؛ حكمة مصدرها العبث وليس الإيمان كما عند السيد رضوان الحُسيني؛ فبينما يستعدّ زيطة لصناعة ما يُشبه عاهة العمى في وجه أحد الزبائن، يرى أنه من الأمانة – أو من التلذذ بسلطته – تحذير الزبون من أنه قد يفقد بصره حقيقة فيرد الرجل بغير مبالاة:

« – نعمة من الله! وهل أفدتُ من بصري شيئاً حتى آسف على ضياعه؟

فقال زيطة بارتياح: – بهذا القلب تستطيع أن تواجه الدُّنيا حقاً».

«السوادُ مصير كلّ شيء في هذه الخرابة»

تذكّرني شخصيّة جان باتيست جرونوي بطل رواية «العطر» لباتريك زوسكيند دائماً بزيطة. جان باتيست هو زيطة في حياة أخرى. لقد اكتشف زيطة إبداعه في تشويه ما خلقه الله كما اكتشف جان باتيست أنّ لديه حاسة شمّ إعجازيّة.جاء زيطة إلى الخرابة من سيرك متجول وقبل ذلك من أبوين شحاذيْن، وجان باتيست وصل إلى أول معمل عطور بعد سنوات من التمتّع بالروائح النتنة في مدبغة جريمال.زيطة ليس له أهل وجان باتيست ابن سِفاح وقد رمته أُمه حين وُلد في مقلب قمامة داخل سوق سمك في باريس. يتفادى الناس زيطة لأنه نتن الرائحة ويكره الناس جان باتيست لأنه بلا رائحة. عاش جان باتيست في القرن الثامن عشر في باريس وغيرها من المدن ولكنه لم ينتم لمكان ولا لزمن بللهوسه بالعطر، وليس هناك ما يُدلّ على أن زيطة انتمى لأربعينيّات القاهرة أو تأثّر بتحوّلاتها كما حدث مع سكان الزقاق الآخرين، إنه «لا يكاد يمتّ بسببٍ للزقاق الذي يعيش فيه» كأنه عاش فقط في إبداعه كصانع عاهات. زيطة وجان باتيست كائنان مُجتثّان من المكان والزمان، كلاهما واقعيّ في أرض الميثولوجيا وخياليّ إذا قابلته في رواية واقعيّة.

«يجيئونه صحاحاً ويغادرونه عمياناً وكسحاناً وأحداباً»

ترى أكثر من قراءة لـ«لوليتا» فلاديمير نابكوف أن هَوَس Humbert همبِرْت بجسد لوليتا هو مجاز لهَوَس نابكوف بالكتابة، همبِرْت لا يستطيع أن يمتلك جسد لوليتا مهما كان غرامه بها أو أداءه الجنسيّ للاستحواذ عليها وهذا هو بالضبط جنون نابكوف بفكرة أنه لا يستطيع أن يمتلك الكتابة كُليّاً مهما كانت قُدراته اللغويّة والأسلوبيّة، الكتابة مستحيلة استحالة جسد لوليتا. نابكوف خلق شخصيّة همبِرْت اللاأخلاقي، الأناني الذي يُمارس الجنس والعنف مع طفلة مُغطياً جريمته بلُغة بديعة، بكتابة يمحو جمالها قُبح القصّة.

إذا مشينا بهذا المجاز خطوة واحدة تجاه زيطة وجان باتيست، إذا أخذنا صناعة العاهات وصناعة العطر كمجاز للكتابة عند محفوظ وزوسكيند فيمكن أن نراهما عكس مجاز لوليتا – الكتابة عند نابكوف تماماً؛ لوليتا من المُستحيل امتلاكها لأنه من المستحيل امتلاك الحُريّة والجمال والمستقبل، بينما يستطيع جان باتيست استخلاص العطر الفريد من الأجساد التي تحمله بقتلها، ويستطيع زيطة ممارسة سلطته كملك في خرابة، كإله في عالم سفليّ بصُنع العاهات وبتعليم البله لمن أعطاهم حظهم الأسود أجساداً صحيحة. استخلاص العطر لا يأتي إلا بالقتل عند جان باتيست بينما شحاذو زيطة، بصرف النظر عن موهبته أو اتقانه لحرفته كصانع عاهات، يتحوّلون من فشلة وجوعى إلى مُجرّد كائنات تستطيع البقاء على قيد الحياة بالخُدعة.

«أعلّمك فن العته مثلاً»

مِن المُدهش أن لوليتا وجان باتيست أبطال في رواياتهم بينما زيطة بكل فرادته مجرد شخصيّة هامشيّة في زقاق المدق بل ونادرة في إنتاج محفوظ كله. كأنّ سؤال الكتابة عند محفوظ كان هامشيّاً مقارنة بما آمن به من وظيفة الكتابة في توثيق حياة الزقاق في لحظة تاريخية معيّنة؛ بانوراما الاستعمار والراديو الذي يحلّ محلّ شاعر الربابة والفقر وأغنياء الحرب والخطر الذي ينتظر ساكني الزقاق حين يتركونه إلى القاهرة الحديثة. كأنّ زيطة فلت عن طريق الخطأ من جديّة هذه العملية التوثيقيّة، أو كأنّ سؤال الكتابة عند محفوظ يأتي عرَضاً ولكنه يظلّ خاصاً وفريداً عندما ينجو من زحمة الشخصيّات والأحداث.

 

إيمان مرسال – المصري اليوم

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail