الأنا والمكان


في لحظات فقدان الإدراك أيها السادة، أشعر بطاقة روحية غامضة، قدرة على التحديق في الأشياء أو بالأحرى ، في حضور الأشياء، وتبدو وكأنها بلا تاريخ ، أو كأنني بلا ذاكرة ، قابلية لمحو أسماء الأشياء أو بالأحرى الإشارات أو اللغة ، ويبدو وكأن الأشياء تتعرى من أسمائها و يبزغ ما يسميه لاوتسو ب “اللامسمى” ، انه حضور شامل لشيء وراء اللغة ، اطلالة للوجود أكثر مما هي للموجود ، فأركز الانتباه كله في سطح الأشياء ناسيا ، أو لا أدري كيف أعبر عن هذا … مهمشا الإشارات والأسماء ، دافعا بها الى خلفية الذاكرة ، شيء يشبه حضور العالم قبل أن نخترع له أسماء وكلمات نعلقها في رقبة كل شيء كما يعلق الناس في بلاد أخرى قطعة معدنية في رقبة كلبهم أو قطهم ، محفورة عليها عنوان البيت و أسم الصاحب أو صاحبة هذا الشيء المألوف المسمى كلبا أو قطة. أعني بأن التفسيرات التي نقدمها للكون نوع من أنواع “التدجين”، و أنا أرى الشيء المتوحش خارج تفسيره وتاريخ تدجينه.

أعني بأن الوقفة المنذهلة أمام اطلالة أشياء بلا أسماء أو تحول الأسماء ذاتها الى عوالم قائمة بذاتها بلا أشياء أو مدلولات تؤدي بي الى رؤية غريبة وكأن الدلالة تطفح خارج سلاسل الإشارات ، خارج الجمل و الكلمات فأرى هوة بين الكلمة و الشيء الذي تدل عليه ، بين … فلأكن أكثر دقة ، أيها السادة ، أكثر دقة ، رغم أن المسألة لا تهمكم .

في لحظات الإدراك أعرف بأن هذه ، مثلا ، صنوبرة ، وهذا جبل وهذا قمر . ولكن أشعر وكأنني أركز أكثر على كون هذه الأسماء ، هذه الإشارات ، لا تستوعب الدلالة ، فيستولي علي شعور بأن الأشياء تطفح أو تفيض مما يزيد من تراجع الإشارات و انكماشها في زاوية “المعاد ادراكه” أعني ، بكلمات أبسط ، بأن أشعر بأن ما أعرفه ينفصل بحدة عما أراه ، فأرى شيئا لا أعرفه بالضبط و أعرف شيئا لا أراه بالضبط ، الى حد أنني مرة ، كنت أحدق في القمر فبدا قاب قوسين أو أدنى مخيفا حاضرا، و ضربت جبيني بيدي مكررا “هذا قمر ! هذا قمر ! هذا قمر ! لا تنس ذلك ! هذا هو … لا تنس ذلك “.

عن “الفراغ الذي قرأ التفاصيل” للمفكر والشاعر الراحل حسين البرغوثي. تحرير وتقديم مراد السوداني

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail