هاملت والحداثة العربية / صادق جلال العظم

عبر محنتهم مع الحداثة الأوروبية، لاشك أن العرب جمعوا في ذواتهم – على طريقة هاملت الشهيرة – بين الانفعال البدئي الكبير والشاعرية الغنائية الأخاذة والإطالة في التأمل والتفكير وضرب الأخماس بالأسداس لا لشيء إلا ليتنقلوا، مثله، من مأساة إلى مأساة وبلا أمل يلوح بفرج قريب أو بعيد.

من هنا الشعور الطاغي بأن المستقبل لا يمكن أن يكون إلا من نصيب فورتينبراسات هذا العالم طالما بقي هاملتنا هذا عالقا في متاهة تلك اللعبة أو المسرحية الأوروبية القديمة والمتجاوزة منذ زمن بعيد والمسماة بـ “La querelle des Anciens et des Modernes »، (خناقة القدماء والمحدثين).

لذا أرى الآن أن اللحظة التي عرضت فيها مسرحية ممدوح عدوان “هاملت يستيقظ متأخراً” في دمشق منذ سنوات عدة كانت بالفعل لحظة سّباقة ومُعبرة. ويحضرني هنا كذلك الكتاب الرائع في تشخيصيته الدقيقة لواقع الحال الحداثي: “دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين” لحسين أحمد أمين والذي يحيل في عنوانه، على ما يبدو لي، إلى السفر اللاهوتي الفلسفي الشهير “دلالة الحائرين” لموسى بن ميمون. نجد العربي المسلم المعاصر في هذا الكتاب حزيناً، حائرا، كئيبا، مرتبكا، ضائعا لأن كل ما يعتقده ببراءة أولى عن أمته ونفسه وأمجاده وتاريخه وكل ما يؤمن به إيماناً عفوياً بسيطا راسخاً عن دينه وحضارته وثقافته وعظمته تكذبه وقائع الحياة اليومية في بيته وفي مدينته وفي بلده وفي دولته وفي عالمه العربي الكبير بالإضافة إلى عالمه الإسلامي الأكبر. إنه الوعي الشقي بهامشيته الحاضرة وتفاهته الراهنة وعطالته المستمرة هو وإسلامه وعروبته وشعره وأدبه وفتوحاته وأمجاده وخيالاته، في عالم معاصر لا يرحم.

هل من عجب إذن، إن وجدنا هاملت القرن العشرين هذا مسكوناً بحالات من العصاب الجماعي التي لا دواء جاهز لها، وبوساوس تلك الجراح النرجسية العميقة التي لا مسكّن سريع لها ولحدتها، وبعُقد النقص الكبيرة التي لا براء حقيقي من إحباطاتها، وبالهواجس التعويضية الشاسعة الواسعة – بكل طاووسياتها ومكابراتها وعنجهياتها – التي لا رادع لاندفاعها وجموحها، والهلوسات المؤامراتية المنفلتة من عقالها والتي ما من حقائق أو وقائع أو حجج تبدو قادرة على ضبطها أو لجمها، وبأوهام الأفعال السياسية العظمى التي ما من حساب أو ميزان قادر على الحد من تهورها، وبأشكال العنف اليائس والبائس التي ما من برامج أو نتائج أو خسائر قادرة على عقلنتها وترشيدها.

عن “الحوار المتمدن”

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail