طيف/ قصة قصيرة جدًّا/ محمود شقير

اسمها حفيظة.

وهي التي أصرّت على المجيء إلى المدينة بعد شهر واحد من الزواج. قال لها: الحرب على أبواب المدينة يا بنت الحلال وعلينا أن نلتزم الحذر.. قالت: لن يهدأ لي بال حتى أدخل حمامها الذي حكت عنه النساء (حكين عما يسببه ماؤه من خدر) قالت: بعد الحمام نزور أنا وأنت الصخرة والحرم.

دخلا المدينة بعد أن سارا في الطريق الترابي وقتاً غير قليل. مشى إلى جوارها وهو يضع يدها في يده، غير مكترث للنظرات التي يرسلها نحوهما رجال هنا ونسوة هناك. راحا يستعيدان بعضاً من ذكرياتهما: كيف اقتربت منه وهو يحرث صفحة الحقل ذات صباح؟ كيف أبدى إعجابه بتورد خديها وبشعرها المتهدل على الجبين؟ كيف تسلل إليها وهي تحلب الأغنام في حوش الدار ذات مساء؟ كيف تشمم جسدها الممزوج بروائح من شتى الأنواع؟ كيف طبع على خدها قبلة ومضى بعد أن نبحته الكلاب؟

قال لها وهما يقتربان من الحمام: أنتظرك في المقهى الذي في آخر السوق. دخلت الحمام وخلعت ثيابها. سكبت ماء على جسدها واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم. استرخى جسدها تحت الماء وسرى فيه خدر لذيذ (حكين عنه باستمتاع). وعلى مقربة منها تزاحمت النساء مثل سرب بط، ورددن أغنيات، لكل أغنية إيقاع. وهي لم تردد أية أغنية. اكتفت بأن استعادت حكايات عريسها الذي ينتظرها هناك.

بعد ساعتين غادرت الحمام. قال لها: لو أن بساط الريح تحت يدي لأمرته أن يطير بنا في هذه اللحظة إلى الفراش. قالت: اصبر يا ابن الحلال، لأننا سنذهب الآن للصلاة.

عند الباب المفضي إلى المسجد، استوقفهما الضابط التركي ومعه الجنود. قال لهم: خذوه. سألتهم: إلى أين تأخذونه؟ ولم تظفر بأي جواب. خاف عليها من مغبة الكلام الذي قد يلفت انتباه الضابط إليها. قال: اذهبي إلى الصلاة وانتظريني.

طال انتظارها ولم يعد. قيل لها إنه الآن في استانبول مع الجيش الذي انسحب. قيل: إنه تزوج امرأة تركية وله منها ولد. قيل: إنه ظل يحارب حتى اللحظة الأخيرة، وهو مدفون عند مشارف القدس. وقيل: إنه فرّ من الجيش وتاه في الطريق.

وهي لم تصدق كل ما قيل من كلام، لأنها كانت ترى كل ليلة طيفه في المنام.

 

عن موقع الكاتب محمود شقير
Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail