نقد الفكر الديني – مأساة ابليس 2

 

 

القسم الثاني

 

إذا رجعنا إلى المصادر التي قلنا أننا سنعتمدها في دراستنا لقصة إبليس نجد أن سيرته تبدأ بوصف لمكانته المرموقة في نظام الملأ الأعلى وعرض للمنزلة الرفيعة التي كان يتمتع بها بين الملائكة قبل طرده من الجنة. يقول الإمام عز الدين المقدسي في كتابه “تفليس إبليس”، مخاطباً الشيطان:

“وأنت الذي خلقك الله بيد قدرته، وأطلعك على بدائع صنعته، ودعاك إلى حضرة قربته، وألبسك خلع توحيده، وتوّجك بتاج تقديسه وتحميده، وجعلك تجول في مجال ملائكته، يقتبسون من نورك، ويستأنسون بحضورك، ويهتدون بعلمك، ويقتدون بعملك، فما برحت في الملأ الأعلى، تشرب بالكأس الأملى، وتتلذذ بالخطاب الأحلى، طالما كنت للملائكة معلماً وعلى الكروبيين مقدماً”(8).

ومن ثم تصف لنا الآيات القرآنية ماذا حدث لإبليس وكيف عصى ربه فلعنه إلى يوم الدين، وطرده من الجنة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) – البقرة :30-34.
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ *فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ *قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ*قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ*قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ*وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ*قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ*إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ *قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) – الحجر: 28-40
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ *قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ) الأعراف: 10- 17
تبدو قصة إبليس، كما وردت في هذه الآيات، بسيطة في ظاهرها، لقد أمره الله أن يقع ساجدا لآدم فرفض وكان ما كان من شأنه، غير أنه لو أردنا أن نتجاوز هذه النظرة السطحية إلى مشكلة إبليس لرجعنا إلى فكرة هامة قال بها بعض المسلمين وهي التمييز بين الأمر الالهي وبين المشيئة، أو الإرادة الإلهية، فالأمر بطبيعة الحال، إما أن يطاع وينفذ، وإما أن يعصى، وللمأمور الخيار في ذلك. أما المشيئة الإلهية فلا تنطبق عليها مثل هذه الاعتبارات لأنها بطبيعتها لا ترد، وكل ما تتعلق به المشيئة الإلهية واقع بالضرورة. لقد شاء الله وجود أشياء كثيرة غير أنه أمر عباده بالابتعاد كما أنه أمرهم بأشياء ولكنه أرادهم أن يحققوا أشياء أخرى(9).ً لذلك باستطاعتنا القول بأن الله أمر إبليس بالسجود لآدم، ولكنه شاء له أن يعصي الأمر، ولو شاء الله لإبليس أن يقع ساجداً لوقع ساجداً لتوه، إذ لا حول ولا قوة للعبد على رد المشيئة الإلهية. إذا نظرنا إل الأمور من هذه الزاوية بامكاننا أن نعتبر الأمر والنهي أشياء طارئة وعرضية إذا قيست بسرمدية المشيئة الربانية، وقدم الذات الإلهية.

عندما نعيد النظر في الآيات القرآنية التي أثبتها في الصفحات السابقة يتبين لنا أن الله أراد للملائكة “أن يسبحوا بحمده ويقدسوا له”، ويقول الطبري في تفسيره الشهر أن “التسبيح والتقديس” هما توحيد الله وتنزيهه، وتبرئته مما يضيفه إليه أهل الشرك به(10) وبعبارة أخرى يشكل التوحيد واجب الملائكة الأول والمطلق نحو خالقهم، ولذلك نراهم منغمسين في أدائه بكل كيانهم ووجودهم، أما بقية الواجبات المفروضة على الملأ الأعلى فتعتبر عرضية وثانوية بالنسبة للواجب المطلق الذي ينبع من المشيئة ا؟لإلهية نفسها.

بعد أن بينا الفارق بين الواجب المطلق نحو الله، وبين واجبات الطاعة الجزئية لأوامر الرب بامكاننا أن نميز الأمور التالية في جحود إبليس:
1- لا شك أن إبليس خالف الأمر الإلهي عندما رفض السجود لآدم، غير أنه كان منسجماً كل الانسجام مع المشيئة الإلهية، ومع واجبه المطلق نحو ربه.
2- لو وقع إبليس ساجداً لآدم لخرج عن حقيقة وجوده وعصى واجبه المطلق نحو معبوده. أراد الله للملائكة أن يقدسوه وأن يسبحوا باسمه، لذلك كان السجود لآدم وقوعاً في ما يضيفه أهل الشرك إلى الذات الصمدية مما هي منزهة عنه، إذ أن السجود لغير الله لا يجوز على الاطلاق لأنه شرك به. في الواقع يثير اختيار إبليس سؤالاً هاماً جداً هو: هل تكمن الطاعة الحقيقية في الاذعان للأمر أم في الخضوع للمشيئة؟ هل يكمن الصلاح في الانصياع للواجب المطلق أم لواجبات الطاعة الجزئية؟ لو كان الجواب على هذا السؤال بسيطاً وواضحاً لما وجدت المأساة في حياة الانسان، ولما وجد إبليس نفسه في هذه المحنة، ولما وقع بين براثن الأمر والمشيئة، نستنتج إذن أن موقف إبليس يمثل الإصرار المطلق على التوحيد في أصفى معانيه، وأنقى تجلياته، وكأن لسان حال إبليس يقول:”جبين سجد للأحد لا يذل في الوجود لأحد”(11). وعبر شهيد الصوفية الحلاج عن هذه الحقيقة في كتاب “الطواسين” بالكلمات التالية: “موسى عم وإِبليس على عَقَبَةِ الطور ، فقال له ” يا إبليس! ما مَنَعَك عن السجود؟” – فقال منعنى الدعوى بِمَعْبُودٍ واحدٍ ، ولو سجدتُ لَهُ ، لكُنْتُ مثلك ، فأنك نُوديت مرّةً واحدةً “انْظُرْ ، إلى الجبل” فَنَظْرتَ ، ونُوديتُ أَنا ألفَ مرّةٍ أّن اُسْجُدْ فما سَجَدْتُ لدعواى بمعناى”(12).
3- برر إبليس رفضه السجود لآدم تبريراً منطقياً واضحاً، إذ قال: (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ). وبالاضافة إلى ذلك تتضمن الآيات القرآنية التي أشرت إليها تبريراً خفياً لرفض إبليس وهو معرفته المسبقة بأن آدم وذريته سيعيثون في الأرض فساداً ويسفكون الدماء، وكان هذا شعور الملائكة أجمعين، عندما قالوا لربهم: (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ). أي كانت الملائكة، بما فيهم إبليس، على علم بما سيرتكبه آدم وذريته من الكبائر والمعاصي، فاستكبرت واستعظمت أن يخلق الله من يعصيه ويسفك الدماء.

عند إمعان النظر بحجة إبليس الأولى، التي تتألف من مفاضلته بين جوهره (النار)، وبين جوهر آدم (الصلصال)، نجد أنها لم تكن استكباراً وفخاراً بقدر ما كانت استذكاراً لحقيقة أساسية شاءها الله وأوجدها على ما هي عليه. وهذه الحقيقة هي أن الله لم يخلق الطبائع على درجة واحدة من السمو والكمال وإنما ميّز بينها، ليس من حيث خصائصها الطبيعية والمادية فحسب، بل من حيث درجات كمالها ورفعتها أيضاً. وبناء عليه ففي إمكاننا أن نصنف الكائنات والأنواع في نظام تقديري معين، يبدأ بالكمال المطلق ذاته، ثم يتدرج بالأنواع هبوطاً كل حسب درجة كماله التي أسبغها الله عليه إلى أن نقترب من العدم باعتباره الحد الذي نقف عنده. ولا ريب أن النار بطبيعتها وجوهرها تحتل مرتبة أسمى وأرفع في هذا الترتيب من المرتبة التي يحتلها الصلصال. بعبارة أخرى تنطوي مفاضلة إبليس بين جوهره وبين جوهر آدم على نظرة فلسفية معينة لنظام الكون وترتيب الطبائع وفقاً لدرجات الكمال التي تتصف بها. لذلك كان إبليس على حق في جوابه، لأن الخالق جعل الأشياء على ما هي عليه من درجات الكمال والسمو، وأمر السجود لآدم يشكل مخالفة صريحة لهذا النظام، وخروجاً على الترتيب الذي شاءه الله وأوجده. فإذا كان جوهر إبليس أرفع في سلم الكمالات من جوهر آدم فلن تستطيع النار عندئذ أن تذل للصلصال إلا بالسير في اتجاه مضاد لطبيعتها ومناف لدرجة الكمال التي أسبغها الله عليها، وهذا أمر محال ما لم يطرأ تحول جذري على المشيئة الألهية فتغير ترتيب الطبائع عما كانت عليه منذ أن أوجدها الله. لقد أمر الله إبليس بشئ، وشاء له تحقيق شئ آخر، لذلك سنرى فيما بعد أن أمر السجود لم يكن أمر مشيئة، وإنما كان أمر ابتلاء. ومن الطريف أن نلاحظ بهذا الصدد أن التحول الذي لحق بإبليس بعد طرده من الجنة، لم يمس جوهره، وإنما جرى على صفاته، وأحواله، فتشوهت صورته، وأصبح لعيناً رجيماً. عبّر الحلاج بطريقته الخاصة عن هذه الحقيقة في المحاورة التي مر ذكرها بين موسى وإبليس، حيث يبين إبليس لكليم الله أن التغير الذي أصابه والتشويه الذي نزل به كانا في الأحوال الظاهرة والزائلة فحسب، ولم يمسا جوهره الدائم، ومعرفته الثابتة لأحكام المشيئة الإلهية، قال موسى لإبليس:” فقال لَهُ “تَرَكْتَ الأَمْرَ؟” فقال “كان ذلك ابتلاءً لا أَمْراً” – فقال له “لاجَرَمَ قَدْ غيَّرَ صورتَك” –قال له “يا موسى ذا وذا تَلْبيِسٌ ، والحال لا مُعَوَّل عليه فإنَّهُ يَحُولُ ، لكن المعرفة صحيحة كما كانتْ، وما تَغَيَّرَتْ ، وإِنْ الشخْص قد تَغَيَّرَ “.(13).
أما الحجة الثانية التي برر بها إبليس رفضه السجود لآدم فكانت تستند إلى علم الملائكة بأن آدم وذريته سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فكيف يسجد من كان غارقاً في التوحيد والتسبيح والتقديس ومن كان أمام الملائكة وخطيب الكروبيين لمخلوق سيفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ يلخص الحلاج هذه الناحية من الموضوع بقوله:

قال الله لإبليس: “لاتسجد؟ يا أيُّها المهين! ” قال “مُحِبّ ، والمحِبُّ مَهِينُ ، إنَّك تقول “مَهين” ، وأنا قرأتُ فى كتابٍ مُبين ، ما يجر عليّ يا ذا القوَّةِ المتين ، كَيْفَ أذل لَهُ وقد خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طينٍ، وهُما ضِدَّان لايتوافقان ، وإنِّي فى الخدمَةِ أَقْدَم، وفى الفَضْلِ أَعظَم، وفى العِلْم أَعْلَم ، وفى العمر أَتَمُّ “(14).

نستخلص إذن أن قصة إبليس كما وردت في الآيات القرآنية التي ذكرناها ليست بالبساطة التي كنا نتخيلها، إنها ليست قصة الصراع بين الخير والشر ، والحق والباطل. وقع إبليس بين شقي الرحى، رحى المشيئة من ناحية، ورحى الأمر من ناحية أخرى، فكان عليه أن يختار اختياراً مصيرياً بين واجبه المطلق في التقديس والتوحيد والتسبيح، وبين واجبات الطاعة الجزئية التي أمره بها الله، فجاءت محنته مفعمة بالعناصر الدرامية والمأساوية.

قبل أن أستمر في استخلاص النتائج المترتبة على هذا التصور لمحنة إبليس، أجدني مضطراً للرد على الدعوى التي قال بها العقاد في كتابه “إبليس”. تتلخص دعوى العقاد في محاولة للدفاع عن النظرة التقليدية السطحية إلى شخصية إبليس واعتباره مجرى كائن عصى أمر ربه فطرده من الجنة. لذلك يرفض العقاد الاعتراف بمحنة إبليس، ويقول بوجوب سجوده لآدم. وعند تمحيص هذا الرأي نجد أنه يستند إلى حجتين:
1- وجب على الملائكة السجود لآدم لأنه خير منهم فهو قادر على فعل الخير والشر بينما الملائكة قادرة على فعل الخير فقط، وهي بمنجاة من غواية الشر ولا توصف به(15).
2- حق السجود لآدم، لأن الله علمه الأسماء كلها، ولم يعلمها للملائكة، مما جعله أسمى مرتبة منها(16) .

وسأرد على هاتين الحجتين على حدة.
أ‌- تبرهن قصة إبليس أنه حتى سادة الملائكة والمقربين منهم ليسوا بمنجاة من غواية الشر، وإلا لما عصى إبليس ربه وانتهى إلى بئس المصير. نستنتج إذن، أن الملائكة عرضة للخير والشر وهي كالانسان، مطالبة بالخيرات وممتحنة بالشرور، مما ينفي فضل آدم على الملائكة، وبالتالي يلغي ضرورة السجود له.
ب‌- لو افترضنا جدلاً مع العقاد أن الملائكة ليست عرضة للخير والشر، وإنما هي تفعل الخير دائماً بطبيعتها وجوهرها، فهل يعني ذلك أن آدم أفضل منها؟ لنطرح السؤال بصيغة أعم وأشمل: أيهما أفضل، الكائنات التي تصنع الخير أحياناً، وتصنع الشر أحياناً أخرى فتفسد في الأرض وتسفك الدماء، أم الكائنات التي لا تصنع إلا الخير بصورة مستمرة ودائمة؟ أعتقد أن الجواب على هذا السؤال واضح كل الوضوح، ولا يتطلب مزيداً من النقاش، بدليل أن تصورنا الأخلاقي للإرادة الفاضلة في أسمى مراتبها يقول بأنها الارادة التي تصنع الخير باستمرار وبدون أي عناء أو جهد، لأن صنع الخير أصبح من جوهرها ومعدنها. أما الارادة الناقصة فهي لا تزال تصارع وتجاهد للتغلب على غواية الشر لها، محاولة بذلك الاقتراب من الارادة الفاضلة باعتبارها مثلها الأعلى. وإذا كانت الملائكة، وفقاً لدعوى العقاد، بمنجاة عن غواية الشر، فلا شك أن الله أنعم عليها بإرادة فاضلة تجعلها أسمى وأرفع بدرجات من آدم وذريته. عندما قال الله للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، استكبرت الملائكة الأمر واستعظمته بدليل جوابها(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء). فهل يريد العقاد أن يجعل من قدرة آدم على الإفساد وسفك الدماء مصدراً لسموه على الملائكة؟

ننتقل الآن إلى الرد على حجة العقاد الثانية، التي تدعي بأن سجود الملائكة حق لآدم، لأن الله علمه الأسماء كلها، ولم يعلمها للملائكة. بينّا في السابق أن سمو إبليس على آدم كان سمواً بالطبيعة والجوهر، وليس سمواً في الأحوال العارضة الزائلة كالتي اكتسبها آدم عندما علمه الله الأسماء كلها. بعبارة أخرى، لا يؤلف علم آدم بالأسماء كلها خاصة من خصائصه الجوهرية المميزة، ولا شك أنه كان باستطاعة الملائكة تعلّم الأسماء كلها لو شاء الله ذلك. نرى إذن أن علم آدم بالأسماء كلها كان علماً طارئاً أنعم الله عليه به ليغري الملائكة على السجود.

نستخلص مما ورد:
1- أن لا فضل لآدم على الملائكة، بما فيهم إبليس، لا من حيث قدرته على صنع الخير والشر، ولا من حيث علمه بالأسماء كلها.
2- أن جوهر إبليس أفضل وأسمى من جوهر آدم، لأن الله خلقه من نار، وخلق آدم من صلصال، وهو الذي أراد للصلصال ألا يسمو سمو النار.
3- أن دعوى العقاد القائلة بأنه كان يجب على إبليس أن يسجد لآدم، لأنه أفضل من الملائكة دعوى فاسدة ومردودة.

 

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail