نقد الفكر الديني – مأساة ابليس 4

القسم الرابع

 

عالجت في الصفحات السابقة مشكلة إبليس على مستويات مختلفة، بدأت بالنظرة التقليدية الشائعة ثم وصفت محنته ثم حددت النواحي المأساوية في شخصيته وموقفه، ومما لا ريب فيه أنه كلما انتقلنا من أحد هذه المستويات الثلاث إلى المستوى الذي يليه انكشفت لنا حقيقة إبليس بصورة أفضل وأعمق وتبينت لنا جوانب شخصيته المتعددة بجلاء أعظم. ولكن هذا لا يعني أن فهمنا لشخصية إبليس على مستوى المأساة يبين لنا حقيقته تامة وكاملة إذ أن شخصيته ليست من إنتاج الخيال الأدبي والدرامي بقدر ما هي من إنتاج الخيال الديني الصرف. لذلك تظل نظرتنا المأساوية إلى إبليس ناقصة لا تكشف إلى جانباً من حقيقته ولن تكتمل الصورة ما لم نعالجها على المستوى الديني البحت الذي سيكشف لنا وضع إبليس الحقيقي والنهائي في نظام الخليفة. أما السبب الرئيسي الذي يدعوني إلى هذا القول فهو تعذر قيام المأساة بمعناها النهائي والمطلق ضمن إطار الأديان السامية الثلاثة. يستحيل على الدين أن يقبل المأساة بصفتها النهائية لأن العناية الإلهية تحيط بالكون إحاطة تامة وتسيره نحو الغايات القصوى التي اختارها اللـه له، لذلك نجد أن الدين بطبيعته يدعي تجاوز المأساة مهما كانت مفجعة ويدعي حل جميع إشكالاتها، إن لم يكن في الحياة الدنيا، ففي الآخرة إذن. وعلى سبيل المثال تتطلب النظرة المأساوية للأشياء أن يتكبد الأبطال خسائر فادحة لا يمكن أن تعوّض على الإطلاق يرمز إليها في معظم الأحيان بالموت أو اليأس التام، كما يطلب من الأبطال أن يتحملوا بلاء وعذاباً لم يستحقوهما ولم يريدوهما لأنفسهم. أما الدين فلا يقبل بهذا المنطق المأساوي ويقول بأن الخسائر التي يتكبدها الصالحون ستعوض عليهم في يوم ما كما عوّض اللـه أيوب على المصائب التي حلت به وكافأه على صبره الطويل. أما الخسائر التي يتكبدها الأشرار فإنها عقاب عادل استحقوه بسبب آثامهم وأفعالهم الشريرة بدليل أن “من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره” وحتى فاجعة الموت، بالنسبة للدين، ليست إلا خسارة مؤقتة ترمز إلى الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء. أي أن الدين لا يقبل المأساة إلى بصورة مؤقتة ومرحلية ويتبع من ذلك أنه لا بد لمأساة إبليس من أن تكون مأساة مؤقتة ستتلاشى في يوم من الأيام.

بعد هذه الإشارة إلى حدود النظرة المأساوية إلى شخصية إبليس أريد أن أطرح السؤال التالي: لماذا أمر إبليس بالسجود لآدم؟ أو بالأحرى لماذا وضعه اللـه في هذا المأزق ورماه في هذه المحنة؟ والجواب هو لأنه أراد أن يمتحنه ويجربه كما امتحن من بعده أيوب وابراهيم وغيرهما من عباده الصالحين. والإشارة إلى تجربة إبليس واضحة في قوله لربه “بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض” و “فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم…” أي أنه سيغوي البشر كما أغواه اللـه وسيبتليهم كما ابتلاه. كان إبليس أمام الملائكة وخطيب الكروبيين فأراد اللـه أن يبتليه فأمره بالسجود لآدم ليرى مدى تمسكه بحقيقة التوحيد وتشبثه بدعواه في التقديس والتسبيح، وبرهن إبليس عن استعداده لأن يضحي بكل شيء في سبيل دعواه بمعبود واحد. يقول الحلاج عن إبليس:
“هو الذي كان أعلمهم بالسجود، وأقربهم من الموجود، وأبذلهم للمجهود، وأوفاهم بالعهود، وأدناهم من المعبود سجدوا لآدم على المساعدة وإبليس جحد بالسجود لمدته الطويلة على المشاهدة” (32).

وكما ابتلى اللـه ابراهيم بأن طلب منه تضحية أعز ما عنده في سبيل وجهه تعالى كذلك ابتلى إبليس بأن طلب إليه تضحية أعز ما لديه في سبيل معبوده ومحبوبه.

من خصائص التجربة الدينية أنها تدخل الممتحن في محنة صعبة تحمله ما لا يطاق، فتظهر حقيقته بكل جلاء وبدون أي تمويه أو تزييف. والفكرة الرئيسية التي أريد أن أبينها هي أن إبليس اجتاز التجربة التي ابتلاه اللـه بها بنجاح تام، وتتضح لنا هذه الحقيقة من الاعتبارات التالية:

1 – نجح ابراهيم في التجربة لأنه علّق مفعول واجباته الأبوية والتزاماته العائلية والإنسانية ليذعن للأوامر الإلهية ويقوم بواجبه نحو ربه مهما كلفه الأمر. كذلك نقول أن إبليس نجح في التجربة لأنه علق مفعول واجبات الطاعة الجزئية ليذعن للمشيئة الإلهية ويتمسكل بواجبه المطلق في التوحيد والتقديس.

2 – كما حول الأمر الإلهي، ذبح إسحق من مجرد جريمة نكراء إلى تضحية كبرى وعطاء ما بعده عطاء، حول تمسك إبليس بواجبه المطلق، جحوده من مجرد عصيان إلى أسمى تقديس توجه به مخلوق إلى الذات الإلهية.

3 – في الواقع جعل الأمر الإلهي من واجبات ابراهيم الأبوية والتزاماته الإنسانية، واجبات ابتلاء لو أذعن لها لفشل في التجربة، كذلك أصبحت واجبات إبليس الجزئية واجبات ابتلاء بالنسبة للواجب المطلق، لو امتثل لها لفشل في التجربة.

4 – كما أن ابراهيم لم يسلك سلوك الإنسان العادي تجاه واجباته الأبوية وإنما سلك سلوك الأنبياء والأولياء فظهرت حقيقته من خلال التجربة، لم يسلك إبليس سلوك الملائكة بالنسبة لواجباته الجزئية نحو اللـه بل سلك سلوك القديسين والصالحين والمقربين فبانت بذلك حقيقته بكل صفائها ونقائها.

5 – أصبح من الجلي أن الابتلاء الإلهي هو مصدر البلاء والعذاب واليأس الذي يمر به الممتحن. كانت رغبة ابراهيم الشديدة في إنقاذ إسحق والاحتفاظ به مصدر عذابه وشقائه، ولولا هذه الرغبة العنيفة لما استحقت تجربته كل هذا الاهتمام لأنه يكون قد قدم إلى ربه شيئاً لا يعز عليه إلا قليلاً ولا يشكل فقدانه بلاء عظيماً. كذلك الأمر بالنسبة لإبليس. عندما جربه اللـه كان يشعر برغبة جامحة لأن يذعن لأمر السجود وعز عليه إلى أقصى الحدود أن يضحي بهذه الرغبة في سبيل تمسكه بحقيقة التوحيد وإلا يكون قد ضحى بشيء لم يكن يرغب فيه أصلاً إلا رغبة طفيفة. كان إبليس وابراهيم يعلمان أن اللـه يجربهما وأنه يطلب منهما أشق أنواع التضحيات وأغلاها على الإطلاق ولكن ما من تضحية تصعب عليهما في سبيل وجهه تعالى، لذلك رفض إبليس السجود ورفض إبراهيم روابط الأبوة والإنسانية.

وعندما عالجنا محنة إبليس على مستوى المأساة وقارناها بقصة ابراهيم ومسرحية أنتيجونا ذكرنا أن محنة ابراهيم عجزت عن الوصول إلى مستوى المأساة بسبب ذلك الكبش المشهور وبسبب تعذر وجود المأساة الحقيقية في الدين. كما قلنا حينئذ أن محنة أنتيجونا تعلوها في الأهمية من حيث أنها تمثل مأساة حقيقية، أما محنة إبليس فاعتبرناها مأساة المآسي لأنها تعبر عن المأساة بأجلى صورها وأقصى حدودها وأبعد معانيها. غير أنه عندما ندرس هذا الموضوع على مستوى التجربة الدينية نضطر لأن نغير هذا التصنيف ونستعيض عنه بتصنيف جديد ينسجم مع منطق الدين وموقفه من المأساة. ولو قدّر لحقيقة إبليس أن تتجلى على مستوى المأساة فحسب لانتهت مشاغلنا عند التصنيف الأول. أما التصنيف الجديد فإنه يضع محنة أنتيجونا في أسفل السلم لأن تجرتها فرضت عليها الاختيار بين أمر السلطة الزمنية وبين أمر السماء وكل منهما يعود إلى مصدر غير المصدر الذي يعود إليه الآخر. بينما نجد أن تجربة ابراهيم كانت أهم مغزى وأقوى مفعولا لأنها خيرته بين أمر اللـه المباشر وبين الواجبات الأبوية والالتزامات الأخلاقية والإنسانية التي كان يعتقد ابراهيم أنها مقدسة ومنزلة من عنده تعالى. أي أن اختياره كان بين أمرين نبعا من مصدر واحد هو اللـه. أما تجربة إبليس فهي تجربة التجارب وأعظمها شأناً وأشدها مرارة لأنها اضطرته للاختيار بين متطلبات المشيئة الربانية من ناحية وبين الأمر الإلهي المباشر من الناحية الأخرى. أي لم يكن على إبليس أن يختار بين الدنيوي والأزلي كما كان على أنتيجونا أن تفعل، ولم يكن عليه أن يختار بين الإلهي والأخلاقي كما كان على ابراهيم أن يفعل، بل كان عليه أن يختار بين الإلهي والإلهي أو بين الأزلي والأزلي لذلك كان ابتلاؤه لا يطاق وبلاؤه لا يقاس ويأسه لا يوصف.

من المقومات الأساسية للتجربة الدينية الناجحة أن يجهل الممتحن جهلاً تاماً النهاية التي ستسفر عنها تجربته إن كانت هذه النهاية لصالحه أم لم تكن. فلو شك ابراهيم لحظة واحدة أنه سيذبح كبشاً عوضاً عن إسحق لما كانت محنته تجربة بل كانت مهزلة، ولو توقع أيوب تعويضاً لصبره على المصائب التي ابتلاه اللـه بها فتحمل العسر أملاً منه باليسر الذي سيليه لفقدت تجربته كل معانيها ومغازيها وفشل في الامتحان. ولو دخل في خلد إبليس يوماً أن لعنته ليست أبدية أو أن خاتمته النهائية ليست جهنم وبئس المصير لانقلبت محنته من تجربة مفعمة بالمأساة إلى مسرحية هزلية. بعبارة أخرى من شروط التجربة الناجحة أن يعتقد الممتحن اعتقاداً راسخاً لا يتطرق إليه الشك بأن تجربته ستسفر عن خاتمة مفجعة، وكم عندئذ ستكون فرحته عظيمة عندما يكتشف أنها أسفرت عن نهاية سعيدة، كما حدث لابراهيم لما استعاد ولده، ولأيوب لما أعاد اللـه إليه أمواله وذريته أضعافاً مضاعفة. وبما أن اللـه كافأ ابراهيم وأيوب على صبرهما ونجاحهما وتمسكهما بواجبهما المطلق نحوه يجوز لنا أن نستنتج بأنه سيكافئ إبليس على نجاحه وتضحيته ويعوض عليه ما تكبده من خسارة مفجعة وما عاناه من شقاء وبلاء وغربة. ولكن إذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً لماذا لعنه إلى يوم الدين؟ الجواب بسيط: لعنه إلى يوم الدين لأن التجربة بحد ذاتها تتطلب ذلك، فلو اعتقد إبليس مثلاً أن اللعنة نزلت به كانت مؤقتة فأمل بالعودة إلى الجنة لفقدت تجربته مغزاها ومعناها، ذلك لأن تمسكه بحقيقة التوحيد، بالرغم من يأسه التام من النجاة، هو دليل اجتيازه التجربة بنجاح، تماماً كما كان يأس ابراهيم من إنقاذ اسحق ووضعه المدية على عنقه الدليل القاطع على نجاحه في التجربة التي ابتلاه اللـه بها. بعبارة أخرى لا تبين اللعنة الأبدية مصير إبليس الحقيقي فهو أمر يجب أن يظل سراً مكتوماً عنه إلى أن يحين موعد إفشائه، تماماً كما ظل مصير إسحق سراً مكتوماً على ابراهيم حتى حان الوقت المناسب لإعلانه. كما أنه لا يجوز لإبليس أن يبقى ملعوناً إلى الأبد، بعد اجتيازه التجربة بنجاح، لأن بقاءه على هذه الحال يشكل مأساة كبرى وحقيقية في الكون. ومنطق الدين، كما مر معنا مراراً، لا يسمح بذلك على الإطلاق.

كما أن فهمنا لشخصية إبليس على مستوى المأساة لا يبين لنا حقيقته تامة وكاملة، كذلك الأمر بالنسبة لمعالجتنا لشخصيته على مستوى التجربة والابتلاء مع العلم بأن مستوى التجربة يقربنا إلى حقيقته بصورة أفضل وأعمق من أي مستوى آخر ذكرناه. ولنصل إلى معرفة حقيقة إبليس التامة ومنزلته الفعلية في الكون علينا تحديد علاقته الجوهرية المباشرة بالمشيئة الإلهية. ومهما بحثت لن أجد تعبيراً عن علاقة إبليس الحقيقية بالمشيئة الإلهية أفضل من التعبير الذي ضمنه الإمام المقدسي في الأسطر التالية حيث قال على لسان إبليس:

“خلقني كما شاء. وأوجدني لما شاء. واستعملني فيما شاء. وقدّر علي ما شاء فلم أطق أن أشاء إلا ما شاء. فما تجاوزت ما شاء. ولا فعلت غير ما شاء. ولو شاء لردني إلى ما شاء. وهداني بما شاء ولكنه شاء. فكنت كما شاء… فمن يكون على القضاء عوني. ومن يطق من القدر صوني. ولكن كل ما يرضيه مني. رضيت به على رأسي وعيني. يا هذا ما حيلة من ناصيته في قبضة القهر. وقلبه بيد القدر. وأمره راجع إلى حكم القدم. وقد قضي الأمر وجف القلم” (33).

بعبارة أخرى كان إبليس صنيعة الإرادة الإلهية خاضعاً لأحكامها ومنفذاً لطلباتها. وعندما اختار العصيان والجحود لم يختر سوى ما كان اللـه قد اختاره له منذ الأزل. إنه مستعمل فيما قدّره اللـه عليه واقع في قبضة قهره وبذلك بطل الأمر والنهي. يستطرد الإمام المقدسي في تبيان مكانة إبليس الحقيقية والغرض الإلهي من طرده فيقول على لسان إبليس:

“يا هذا. أتظن أني أخطأت التدبير. ورددت التقدير. وغيرّني التغيير. لا وعلو عزته. وسنا قدرته. لكنه خلق الحسن والقبيح. والمستقيم والصحيح. جمعاً بين الشيء وضده. ليدل على كمال قدرته. فإن الأشياء لا تعرف إلا بالأضداد. فجعلني في الأول أعلم المحاسن في الملأ الأعلى فأبينها للأملاك. وأزين بها الأفلاك. فكنت معلم التوحيد. فلما طالع أطفال المكتب أمثلة توحيدهم. وحققوا حروف هجاء تقديسهم وتمجيدهم. نقلني من العالم الأعلى إلى العالم الأسفل أعلمهم ما هو ضد ذلك فأبين لهم القبائح وأزينها لهم. فبي عرف الحسن والقبيح. وميز المستقيم والصحيح. فأنا في الأرض والسماء. عريف العرفاء. معلم العلماء. فأنا معجز القدرة. ومشاهد حضرة الحكمة. فمن هو في الحضرة أدنى مني. ومن هو في الذكر أشهى مني. فلي شرف إذ ذكرني. وإن كان لعنني. ولي فخر إذ نظرني. وإن كان قد طردني. فبمعرفتي له أنكرني. ولحيرتي به حيرني. ولغيرتي عليه غيرني. ولخدمتي خذلني. ولصحبتي حرمني. فالآن وقتي به أصفى. وحالي معه أشفى. لأني كنت أخدمه لحظي. والآن أخدمه لحظه. فارتفع الحظ من البين. وأنت تظنه بين. فلئن كنت قد سقطت من العين. فقد وقعت في عين العين” (34).

سأكرس هذا القسم من بحثي لمحاولة إيجاد تعليل ديني مقبول لبعض المفارقات التي وردت معنا في الأقسام السابقة من هذا البحث وللإجابة على بعض الاسئلة الهامة التي ما تزال معلقة. وفي ما يلي تصنيف لأهم هذه المفارقات والأسئلة.

1) عندما طرحت السؤال، لماذا أمر إبليس بالسجود لآدم، أجبت عليه بقولي: لأن اللـه أراد أن يجربه ويبتليه كما جرب ابراهيم وأيوب من بعده، والسؤال الذي يبرز أمامنا الآن هو، لماذا يبتلي اللـه ملائكته وعباده وهو العليم بكل ما يظهرون وما يبطنون؟ هل باستطاعتنا مثلاً أن نحدد صفة من الصفات الإلهية التي تدعو اللـه لأن يجرب عباده؟ أو بالأحرى إلى أية صفة من صفات الذات الإلهية يجب أن ننسب هذا الميل إلى ابتلاء العباد؟
2) لما ميزنا بين المشيئة والأمر في مطلع هذا البحث ذكرنا أن اللـه يأمر أحياناً بشيء بينما يكون قد شاء تحقيق شيء آخر. ترى هل من تعليل ديني لهذه المفارقة في تصرفات الإله؟
3) رأينا أن إبليس واقع في قبضة قهرة خاضع خضوعاً تاماً لقدره وأحكام مشيئته، شأنه في ذلك شأن بقية المخلوقات، مما يبطل مفعول الأمر والنهي عنه. إذا كان هذا القول صحيحاً لماذا طرده من الجنة بحجة الأمر والنهي؟ بالإضافة إلى ذلك قدر اللـه منذ الأزل من هم أصحاب الجنة ومن هم أصحاب النار. والأدلة الدينية على ذلك عديدة أورد منها، على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، الحديث القدسي التالي: “إن اللـه تعالى قبض قبضة فقال هذا إلى الجنة برحمتي ولا أبالي وقبض قبضة هذا إلى النار ولا أبالي” (35). ولكن بالرغم من ذلك أنزل اللـه الكتب وأرسل الرسل وشحنها بالأمر والنهي وميز بين الحلال والحرام، وما فائدة كل ذلك لمن كان مجبوراً بحكمته ومستعملاً فيما قدره عليه.
4) إذا كان اللـه صانع الأشياء كلها ومقدر الخير والشر على عباده لماذا أراد للناس أن يعتقدوا أن إبليس هو سبب الشر والمعصية ولماذا شاء تحميله أوزار أولئك الذين خلقهم للشر وأجرى الشر على يديهم؟ هل باستطاعتنا أن نعلل هذه المفارقة بردها إلى إحدى الصفات الإلهية المعروفة؟

أعتقد أن الصفة الإلهية التي نبحث عنها للإجابة عن هذه الأسئلة هي صفة المكر. وإليكم بعض الآيات القرآنية التي تبين طبيعة هذه الصفة:
1) “ومكروا ومكر اللـه واللـه خير الماكرين” (آل عمران 54).
2) “وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللـه واللـه خير الماكرين” (الأنفال 30).
3) “وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مسّتهم إذا لهم مكر في آياتنا قل اللـه أسرع مكراً إن رسلنا يكتبون ما تمكرون” (يونس 21).

نجد أيضاً أن بعض الآيات الأخرى تنسب إلى الذات الإلهية صفة متشابهة هي صفة الاستهزاء، كما في قوله تعالى “اللـه يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون” (البقرة 15). وأوردت بعض الآيات المعنى نفسه دون ذكر المكر الإلهي وتخصيصه كما في الآيات التالية:

1) “ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين” (آل عمران 178).
2) “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول”. أي وجب عليها العذاب (الإسراء 16).
3) “إن المنافقين يخادعون اللـه وهو خادعهم..” (النساء 141).

نستخلص من تفسير الطبري للآيات المذكورة ما يلي:
أ) ينطوي المكر على الاستهزاء والخديعة (36).
ب) ينطوي المكر على إظهار شيء لشخص ما وإضمار شيء آخر له لذلك: “يظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي عنده في الآخرة” (37).
ج) إملاء اللـه للقوم، يعني “أن يمد من عمرهم وسعادتهم وجاههم، ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتة” (38).
د) لما قال اللـه: “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول” كان قد شاء تدمير القرية، ولكن لئلا يكون للعباد عليه حجة في ما شاء لجأ إلى المكر فأمر مترفيها أن يفسقوا حتى يبدو للجميع وكأن القرية استحقت ذلك التدمير. بينما الحقيقة غير ذلك.

ويشرح أبو طالب المكي فكرة المكر الإلهي ويربطها بكل وضوح بابتلاء العباد فيقول في كتابه الشهير “قوت القلوب” ما يلي:
“وحدثنا عن أبي محمد سهل رحمه اللـه تعالى قال رأيت كأني أدخلت الجنة فلقيت فيها ثلثمائة نبي فسألتهم ما أخوف ما كنتم تخافون في الدنيا فقالوا لي سوء الخاتمة هي من مكر اللـه تعالى الذي لا يوصف ولا يفطن له ولا عليه يوقف ولا نهاية لمكره لأن مشيئته وأحكامه لا غاية لها ومن ذلك الخبر المشهور أن النبي صلى اللـه عليه وسلم وجبريل بكيا خوفاً من اللـه تعالى فأوحى اللـه إليهما لم تبكيان وقد أمنتكما، فقالا ومن يأمن مكرك فلولا أنهما علما أن مكره لا نهاية له لآن حكمه لا غاية له لم يقولا ومن يأمن مكرك مع قوله قد أمنتكما ولكان قد انتهى مكره بقوله، ولكانا قد وقفا على آخر مكره، ولكن خافا من بقية المكر الذي هو غيب عنهما.. فكأنهما خافا أن يكون قوله تعالى (وقد أمنتكما مكري) مكرا منه أيضا.. ويختبر بذلك حالهما.. كما اختبر خليله عليه السلام لما هوى به المنجنيق في الهواء فقال (حسبي الله ربي) فعارضه جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة؟ قال: لا، وفاء بقوله: (حسبي الله) فصدق القول بالعمل”(39).

بعد هذه المراجعة السريعة لفكرة المكر الالهي بامكاننا القول أن الله كان يبدي لإبليس من الرضا غير ما شاء له من مصير وأضمر له من قدر ومحنة وخاتمة. أي أنه مكر به فأمره ظاهراً بالسجود لآدم ولكنه شاء له ضمنا أن يعصي الأمر حتى يكون له حجة على إبليس ليفعل به ما شاء وينفذ فيه قضاءه وقدره. لم يكن أمر الابتلاء إذن سوى أداة المكر الإلهي غايتها تنفيذ أحكام المشيئة وتبريرها أمام مخلوقاته فتصبح بذلك مقبولة في أعينهم فلا يكون لهم حجة عليه فيما يفعل بهم. وكما قال أبو طالب المكي: لا غاية لمشيئته وأحكامه، ولكن المكر الإلهي يتدخل ليجعل الأمور تبدو للعباد على غير ما هي عليه أي ليجعل المشيئة تبدو وكأن لها غايات ومبررات وأسبابا. لذلك مكر الله بالملائكة فأبدى لهم وكأن إبليس طرد لسبب وجيه هو العصيان ولولا هذا التدبير الماكر لاستعظمت الملائكة طرد سيدهم أكثر مما استعظمت قوله: (إني جاعل في الأرض خليفة)، ولتعذر عليها تحمل أحكام المشيئة الربانية ومواجهتها مباشرة دون توسط المكر بمبرارته وتفسيراته. لذلك طرده من الجنة بحجة الأمر والنهي وليس بحجة نفاذ مشيئته فيه. كما أنه يحسن للعباد، من الناحية العملية، أن يعتقدوا أن إبليس عصى أمر ربه فطرده بسبب جحوده، لأنهم لو آمنوا عن حق بأن الله قدر عليه هذا المصير التعيس منذ الأزل لما تحملت عقولهم هذه الحكمة فيفقدون صوابهم ويكفرون بعدالته ورحمته. لذلك رأى أن الإمام المقدسي قد وقع على عين الصواب حين كتب ما يلي عن إبليس:

“إن زل أحدهم قال إنما استزلهم الشيطان. وإن نسي أحدهم قال فأنساه الشيطان. وإن عمل أحدهم قال هذا من عمل الشيطان، فأنا حمّال أوزار المذنبين، وحمّال أثقال الخاطئين”.(40).

رأينا أن أبا طالب المكي ربط بين تجربة إبراهيم وبين المكر الإلهي لأنه عندما كان إبراهيم على وشك السقوط في النار توكل على الله توكلا تاماً بقوله (حسبي الله ربي) غير أن الله اراد اختبار تمسكه بهذا التوكل فمكر به بأن أرسل له جبريل يعرض عليه المساعدة. أي كان إرسال جبريل إغواءاً له للجحود بتوكله على الله ولكنه رفض مساعدة الملاك ونجح في التجربة، فكانت النار برداً و سلاماً على إبراهيم. بعبارة أخرى شاء الله منذ القدم لإبراهيم أن يكون من أهل الجنة ومن أنبيائه الصالحين فابتلاه حتى لا يكون لأحد من مخلوقاته حجة عليه فيما شاء لإبراهيم من قدر ومصير. أما بالنسبة لإبليس فقد شاء له الله منذ الأزل أن يكون معلم التوحيد في الملأ الأعلى وأن يكون معلم الشر والمعصية في العالم الأدنى لذلك ابتلاه ومكر به حتى لا يكون لأحد عليه حجة فيما شاء لإبليس من مصير تعيس.

ومع أن الله قرر منذ الأزل من هم أصحاب الجنة ومن هم أصحاب النار، أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وملأها بالأمر والنهي، وميز بين الحلال والحرام ليبدي لعباده أن سعادتهم وشقاوتهم تتوقفان على سلوكهم واختياراتهم في إتباع أنبيائه والتمسك بشرائعه وبذلك لا يكون لهم حجة عليه بالنسبة للمصير الذي كتبه عليهم “إنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون”. وهذا يعني أن إرسال الرسم، وإنزال الكتب، والتمييز بين الحلال والحرام ليست إلا وسائط مكر لتنفيذ أحكام مشيئته في عباده، شأنهم في ذلك شأن أهل القرية التي أراد الله تدميرها فأمر مترفيها ففسقوا فيها، وشأن الذين أملى الله لهم خيرا لأنفسهم ليزدادوا إثما فعذبهم عذاباً مهينا. ومع أن إبليس كان مجبوراً بحكمته لا حول له ولا قوة تجاه ربه لم ينفذ مشيئته فيه ويلعنه إلا بعد أن مكر به بواسطة أمر السجود, فظهر للجميع وكأن إبليس كان مسؤولاً واستحق هذا العقاب.

رددنا مراراً أن الله هو صانع الخير والشر بدليل الحديث القدسي القائل:
” إن الله عز وجل يقول لا إله إلا أنا خلقت الخير وقدّرته فطوبى لمن خلقته للخير وخلقت الخير له وأجريت الخير على يديه، أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الشر وقدرته فويل لمن خلقته للشر وخلقت الشر له وأجريت الشر على يديه” (41).

ولكن من مكره أراد للعباد أن يعتقدوا غير ذلك بأن ينسبوا النقيصة والقبيحة إما لأنفسهم كما فعل آدم عندما قال: “ربنا ظلمنا أنفسنا” أو إلى تلبيس إبليس وغوايته، وأن ينسبوا الخير والعدل والرحمة إلى الله كما فعل آدم عندما قال: “إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين”. بالإضافة إلى ذلك يحسن للعباد من الناحية العملية، أن يعتقدوا بصورة عامة أن لله عدواً اسمه إبليس اللعين هو مصدر الشر والزلة والخطيئة، لأنهم لو آمنوا عن الحق أن الله هو مصدر بلائهم ومصائبهم التي تحيط بهم من كل جانب لما تحملت عقولهم هذه الحقيقة فيفقدون صوابهم ويكفرون به وبنعمته. كتب الإمام المقدسي على لسان إبليس ما يلي:
“وبعد ذلك. فإنه جعلني سبباً لوجود الزلة. وعلة لتوجه الأمر والنهي. في الحقيقية لا علة لأمره، ولا معقب لحكمه. ولا سبب لبعد أعدائه ولا نسب لقرب أوليائه. فأن الله تعالى غني عن خلقه.. قائم بنفسه قيوم بعباده، لا تنفعه حسنات المحسنين ولا تضره سيئات المسيئين. فقد نفذ حكمه. ومضى قضاؤه. وجف قلمه بما هو كان في ملكه.. أن شاء عذّب وإن شاء عفا لا يلزمه إثبات الوعيد. بل الأمر إليه في وعيده. والمشيئة إليه في تهديده. فله أن يعذب بلا سبب. وأن يسعد بلا نسب ولا مكتسب”(42)

إن كان باستطاعة آدم أن ينسب النقيصة إلى نفسه أو إلى إبليس الذي أغواه وأن يطلب المغفرة والرحمة من ربه تمشياً مع توصية السيد المسيح: “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، فإلى من يجب أن ينسب إبليس عصيانه وجحوده؟ أو على حد قول إبليس: “فلئن كنت إبليس آدم فليت شعري من كان إبليسي؟”(43). وبطبيعة الحال أحال إبليس جحوده إلى مصدره الحقيقي والنهائي بقوله: “فيما أغويتني” فأعطى بذلك لله ما لله ولم يعط لقيصر شيئاً، لأن قيصر لا يملك شيئا على الإطلاق بالنسبة لإبليس ولا حول له ولا قوة حتى ينسب له أي شيء. إذا استرسلنا في مقارنة موقف آدم بموقف إبليس نجد أنه إذا كان إبليس أول بطل مأساوي في الكون كان آدم أول انتهازي لأنه رفض اتخاذ موقف محدد بين الأمر والمشيئة رغبة منه بالنجاة كيفما تمت الأمور، وهذا واضح في جوابه الذي رددناه مرات عديدة، فلو صح “الأمر” وكان آدم مسؤولا بالفعل عن عصيانه يكون قد اعترف بذنبه واعتذر من ربه واستغفره فأتاح له فرصة النجاة، ولو صحت المشيئة وبذلك انتفت عنه مسؤولية العصيان يكون قد نجا بتسليم أمره لله وتعلقه برحمته وغفرانه، بعبارة أخرى أضاف آدم الفعل إلى نفسه لما قال: “ربنا ظلمنا أنفسنا” وأخذ مسؤولية العصيان على عاتقه فكان “قدرياً” ونفى بذلك أن يكون الله قد قدر عليه الظليمة وأرادها له. ولما قال آدم “إن لم تغفر لنا وتحرمنا لنكونن من الخاسرين” تعلق بحبال الرحمانية المنوطة بعروة المشيئة فكان “جبرياً” ونفى بذلك عن نفسه مسؤولية الظليمة لأنه في هذه الحال يكون الله قد قرر منذ الأزل فيما إذا كان سيرحم آدم أم سيعذبه فتكون الظليمة حجة الله على آدم ولا يكون لآدم حجة على ربه. نرى إذن أن آدم حاول النجاة عن طريق القدرية وعن طريق الجبرية في آن واحد تحوطاً منه إذا أنه لم يكن على يقين أيهما ستصح في نهاية المطاف. أما إبليس فقد اتخذ موقفاً محدداً بقوله “فبما أغويتني” فلم يضف شيئاً إلى نفسه بل أحال كل شيء إلى مصدره الحقيقي أي إلى المشيئة الإلهية فكان بذلك جبرياً مخلصاً ولم يحاول الاستفادة من القدرية كما فعل آدم بغية السلامة والنجاة.

رفض بعض المجتهدين إحالة النقيصة إلى المشيئة الإلهية وقالوا إن إبليس هو مصدر الشر وخالق المعصية(44) رغبة منهم بتنزيه الله عن خلق الشر وتقديره على عباده. أعتقد أن هذا الاجتهاد ينسجم مع بعض النظريات الفلسفية التي تأثر بها المفكرون المسلمون أكثر بكثير مما ينسجم مع النظرة الدينية الخالصة للموضوع، وبما أننا نعالج شخصية إبليس ومكانته في الكون على المستوى الديني البحت لا يمكننا أن نأخذ بالاجتهاد المذكور. بالإضافة إلى ذلك ينسب هذا الاجتهاد إلى إبليس القدرة على الخلق والتكوين لا على التشويه والإفساد فحسب. وهذا قول مردود من الناحية الدينية. ولو أراد إبليس خلق المعصية لكان بقدرته تعالى أن يمنعها وبما أنه لم يمنعها نستنتج أن وجودها كان منسجماً مع مشيئته السرمدية.

ورد معنا قول أبي طالب المكي “أن الخاتمة هي من مكر الله تعلى الذي يوصف ولا يفطن له ولا عليه يوقف”. يعود بنا هذه القول إلى الخاتمة النهائية التي توقعتها لإبليس عندما قلت أن الله سيكافئه على نجاحه في التجربة التي ابتلاه بها ويعيده إلى الجنة يوم تشرف هذه الدراما الكونية على الانتهاء. سأقدم فيما يلي الاعتبارات والاسباب التي جعلتني استنتج أن نهاية إبليس ستكون نهاية سعيدة ومرضية:

أ‌) تمسك إبليس بحقيقة التوحيد تمسكا لا مثل له ولذلك لا يمكن أن ينتهي في جهنم عملا بالحديث القدسي القائل: “قال الله عز وجل اني أنا الله لا إله إلا أنا من أقر له بالتوحيد دخل حصني ومن دخل حصني أمن عذابي”(45).
ب‌) نجح إبليس في التجربة التي ابتلاه الله بها وصبر على البلاء الذي حل به من جرائها وعليه فإن مكافأته النهائية مضمونة بدليل الحديث القدسي القائل:”قال الله عز وجل إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً فحمدني و صبر على ما ابتليته فإن يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا ويقول الرب للحفظة إني قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر” (46)، ولولا هذه النهاية السعيدة المتوقعة لإبليس لكانت خاتمته مأساة حقيقية ونهائية لا يمكن لمنطق الدين أن يقبل بوجودها كما مر معنا في السابق. وبما أن الخاتمة هي من كره تعالى، جعل الله إبراهيم وأيوب يعتقدان أن خاتمة تجربة كل منهما ستكون على نقيض ما كانت عليه فعلاً، وعلى عكس ما أراد لها الله من خاتمة أي أنه أبدى لهما من أحكامه عند بداية التجربة غير ما أضمر لهما بالنسبة لخاتمتها. ينطبق هذا الاعتبار على إبليس إذ أن مكر الله يتطلب أن يعتقد إبليس اعتقاداً جازماً بأن خاتمته لن تكون تعيسة ويائسة. نستنتج إذن أن اللعنة التي نزلت بإبليس لم تكن تعبيراً عن نهايته الحقيقية التي شاءها الله له، وإنما كانت مكراً إلهيا غايته تنفيذ أحكام المشيئة فيه.

لنفترض جدلاً أني على صواب في ما قلته عن حقيقة إبليس وعن خاتمته ومصيره النهائي، ماذا يستتبع هذا الافتراض من نتائج بالنسبة لموقفنا الشخصي من إبليس؟ أعتقد: أولا أنه يجب علينا إدخال تعديل جذري على نظرتنا التقليدية إلى إبليس وإحداث تغيير جوهري في تصورنا لشخصيته ومكانته. ثانيا، يجب أن نرد اعتباره بصفته ملاكاً، يقوم بخدمة ربه بكل تفانٍ وإخلاص، وينفذ أحكام مشيئته بكل دقة وعناية. وأخيراً، يجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له، وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح، ونوصي الناس به خيراً بعد أن اعتبرناه زورا وبهتانا، مسؤولا عن جميع القبائح والنقائض. ولكن أرى من واجبي أن أحذركم أن العفو عن إبليس ورد الاعتبار له يستتبع نتائج وعواقب هامة لا تخطر على بال أحد في أول الأمر. إن مثل هذه الخطوة تضطرنا لأن نبدل الكثير من أفكارنا الدينية ومعتقداتنا الموروثة حول أمور الدنيا والآخرة. ولأعطيكم فكرة بسيطة عن خطورة العواقب التي قد يؤدي إليها العفو عن إبليس، سأستشهد بقصة طريفة وجميلة كتبها توفيق الحكيم (47). يقول الحكيم في هذه القصة أن إبليس قرر ذات يوم أن يتوب إلى ربه وأن يرجع عن إثمه ليكرس نفسه لعمل الخير والسير على الصراط المستقيم، فذهب إلى شيخ الأزهر ليتوب على يديه ويدخل بإرشاده في الدين الحنيف، فدار الحوار التالي بين إبليس وشيخ الأزهر:
“- إيمان السيطان؟! عمل طيب ولكن ..
– ماذا؟ أليس من حق الناس ان يدخلوا في دين الله أفواجا؟ أليس من آيات الله في كتابه العزيز: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)؟ هأنذا أسبح بحمده واستغفره، وأريد أن أدخل في دينه خالصا مخلصا، وأن أسلم ويحسن إسلامي وأكون نعم القدوة للمهتدين!

وتأمل شيخ الأزهر العواقب لو أسلم الشيطان، فكيف يتلى القرآن؟ هل يمضي الناس في قولهم:”أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟!” لو تقرر إلغاء ذلك لاستتبع الأمر إلغاء أكثر آيات القرآن.. فإن لعن الشيطان والتحذير من عمله ورجسه ووسوسته لمما يشغل من كتاب الله قدراً عظيماً .. كيف يستطيع شيخ الأزهر أن يقبل إسلام الشيطان دون أن يمس بذلك كيان الإسلام كله؟!

رفع شيخ الأزهر رأسه ونظر إلى إبليس قائلا: إنك جئتني في أمر لا قبل لي به… هذا شئ فوق سلطتي، وأعلى من قدرتي، ليس في يدي ما تطلب… ولست الجهة التي تتجه إليها في هذا الشأن.
– إلى من أتجه إذن؟ ألستم رؤساء الدين؟ كيف أصل إلى الله إذن؟… أليس يفعل ذلك كل من أراد الدنو من الله. أطرق شيخ الأزهر لحظة.. وهرش لحيته ثم قال:
– نية طيبة ولا ريب! … لكن … على الرغم من ذلك أصارحك أن اختصاصي هو إعلاء كلمة الاسلام، والمحافظة على مجد الأزهر، وأنه ليس من اختصاصي أن أضع يدي في يدك”.

أي أدرك شيخ الزهر ضرورة وجود إبليس لإعلاء شأن الدين والمحافظة على مؤسساته. ولو اختفى الشيطان لزال سبب وجوده وذهب مبرر استمراره، وكما يقول الحكيم نفسه في ذات القصة:

“كيف يمحى إبليس من الوجود دون أن تمحى كل تلك الصور والأساطير والمعاني والمغازي التي تعمر قلوب المؤمنين وتفجر خيالهم؟.. ما معنى “يوم الحساب” إذا محي الشر من الأرض؟ وهل يحاسب أتباع الشيطان الذين تبعوه قبل إيمانه أم تمحى سيئاتهم ما دامت توبة إبليس قد قبلت…؟”(48)

وبعد أن يئس إبليس من شيخ الأزهر صعد إلى السماء مباشرة وتكلم مع جبريل طالبا منه ان يتوسط له عند ربه لينال المغفرة وتقبل توبته فدار الحوار التالي بين إبليس وجبريل:
” – نعم ولكن زوالك من الأرض يزيل الأركان، ويزلزل الجدران، ويضيع الملامح ويخلط القسمات، ويمحو اللوان. ويهدم السمات. فلا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة… ولا للحق بغير الباطل.. ولا للطيب بغير الخبيث.. ولا للأبيض بغير الأسود .. ولا للنور بغير الظلام.. بل ولا للخير بغير الشر.. بل أن الناس لا يرون نور الله إلا من خلال ظلامك .. وجودك ضروري في الأرض ما بقيت الأرض مهبطاً لتلك الصفات العليا التي أسبغها الله على بني الإنسان!
– وجودي ضروري لوجود الخير ذاته؟! نفسي المعتمة يجب أن تظل هكذا لتعكس نور الله!. سأرضى بنصيبي الممقوت من أجل بقاء الخير ومن أجل صفاء الله … ولكن … هل تظل النقمة لاحقة بي واللعنة لاصقة باسمي على الرغم مما يسكن قلبي من حسن النية ونبيل الطوية…
– نعم يجب أن تظل ملعونا إلى آخر الزمان .. إذا زالت اللعنة عنك زال كل شئ..
– عفوك يا ربي! لماذا أحمل هذا الوقر العنيف، لماذا كتب عليّ هذا القدر المخيف؟ لماذا لا تجعل مني الآن ملاكا بسيطا من ملائكتك، يباح له حبك وحب نورك، ويثاب على هذا الحب بالعطف منك والحمد من الناس؟ هأنذا أحبك حبا لا مثيل له ولا شبيه.. حبا يستوجب مني هذه التضحية التي لم تدركها الملائكة ولم يعرفها البشر.. حبا يقتضيني الرضا بارتداء ثوب العصيان لك، والظهور في لبوس المتمرد عليك، حبا يستلزم مني احتمال لعنتك عليّ ولعنة الناس. حبا لا تسمح لي حتى بشرف ادعائه. ولا بفرح الانتساب إليه.. حبا إذا كتمه النساك ملأ صدورهم نورا.. وأنا أكتمه، ولكن نوره يأبى من صدري اقترابا..

وبكى إبليس .. وترك السماء مذعنا .. وهبط الأرض مستسلما.. ولكن زفرة مكتومة انطلقت من صدره، وهو يخترق الفضاء.. رددت صداها النجوم والأجرام، في عين لوقت كأنها اجتمعت كلها معها لتلفظ تلك الصرخة الدامية.
“إني شهيد !… إني شهيد!….”

 

مراجع

1- ألقيت كمحاضرة في النادي الثقافي العربي في بيروت، 10 كانون الأول 1965، نشرت مع شئ من الاختصار بمجلة “حوار”، بيروت، كانون الثاني 1966. أنظر أيضا مجلة النادي “الثقافة العربية”، العدد الثاني، شباط 1966.
2- حققه محمد منير الدمشقي، مطبعة النهضة، القاهرة، 1928.
3- راجع “تلبيس إبليس”، ص: 39- 44، 65، 73، 82، 83.
4- ص: 164- 165.
5- ص: 45- 47.
6- ص: 126.
7- من كتابه “مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية، أو مقال في الانسان”، ترجمة الدكتور إحسان عباس، دار الأندلس، بيروت، 1961، ص: 147- 148.
8- تفليس إبليس، مطبعة مدرسة والدة عباس الأول، القاهرة، 1906، ص: 11.
9- أورد الطبري في تفسيره الشهير الأسطورة التالية، وهي ذات مغزى هام بالنسبة للموضوع الذي نحن بصدده:”فبعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني. فرجع، ولم يأخذ. وقال: رب، إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث الله ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخلط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين”.
تمثل هذه القصة الفارق بين المشيئة والأمر، أمر الله جبرائيل وميكائيل، أن يأتيانه بطين من الأرض ولكنه شاء ألا يتحقق الأمر إلا على يدي ملك الموت، وكان له ما شاء. “تفسير الطبري” تحقيق محمود محمد شاكر، دار المعارف بمصر، ج 1- ص: 459.
10- تفسير الطبري، ج 1 – ص: 475.
11- تفليس إبليس، ص 15.
12- “كتاب الطواسين”، تحقيق لويس ماسينيون، باريس 1913، طاسين الأزل والالتباس.
13- طاسين الأزل والالتباس.
14- المصدر نفسه.
15- عباس محمود العقاد، “إبليس”، دار الهلال، القاهرة، ص: 10- 11.
16- العقاد، ص 148.
17- “كتاب الطواسين”، المقدمة، ص 11- 12.
18- تفليس، ص 4.
19- قال فريق من المجتهدين أن الابن الذي أمر إبراهيم بذبحه هو اسحق، بينما قال فريق آخر بأنه إسماعيل. وقد ناقش الطبري في تفسيره آراء الفريقين، وأورد حججهم وانتهى إلى تبني رأي القائلين بأنه إسحق. وسأتبع رأي الطبري في هذه التسمية. تفسير الطبري، (الطبعة القديمة)، المطبعة اليمنية بمصر، ج 8، الجزء 3، 49.
20- يرى كيركيجور في استعادة إبراهيم لابنه إسحق خاتمة دينية خاصة تسمو بقصة إبراهيم فوق المأساة بمعناها الأدبي المعروف ويرى في شخصية إبراهيم إنسانا تجاوز بمراحل شخصية البطل المأساوي كما نجده في الأدب العالمي. بينما الواقع هو أن قصة إبراهيم تقتصر تقصيرا تاما عن الوصول إلى مستوى المأساة، وتبقى شخصيته دون شخصية البطل المأساوي للأسباب المذكورة أعلاه.
21- تفليس إبليس – ص: 15.
22- طه حسين- “من الأدب التمثيلي اليوناني، سوفوكليس” – دار المعارف بمصر، ص: 138.
23- من الأدب التمثيلي – ص: 151.
24- طاسين الأزل والالتباس
25- تفليس – ص: 36- 37.
26- “الإشارات الألهية”، تحقيق عبدالرحمن البدوي، القاهرة، 1950، ص: 80، 81، 82.
27- الشيخ محمد المدني، الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية، حيدآباد، 1258 هـ. – ص: 87.
28- طاسين الأزل والالتباس.
29- الاشارات الالهية، ص: 81.
30- طاسين الأزل والالتباس.
31- تفليس، ص: 21- 22

31- تفليس إبليس، ص: 21، 22.
32- طاسين الأزل والالتباس.
33- تفليس، ص: 13.
34- تفليس، ص: 22- 23
35- الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية، ص: 68.
36- تفسير الطبري، ج 1، ص: 301- 302.
37- تفسير الطبري، ج 1، ص: 303.
38- تفسير الطبري، ج 7، ص: 421- 422.
39- أبو طالب المكي، قوت القلوب، ج 1، ص: 229.
40- تفليس، ص: 26.
41- الاتحافات السنية، ص: 71.
42- تفليس، ص: 28- 29.
43- تفليس، ص: 16.
44- تفسير الطبري، ج 1، ص: 477- 488، 508.
45- الاتحافات السنية، ص: 4.
46- الاتحافات السنية، ص: 10.
47- الشهيد.
48- الشهيد.

 

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail