صور تولستوي

أي . أن . ويلسون

ترجمة / أحمد فاضل

منذ وفاته في 20 نوفمبر / تشرين الثاني 1910 في محطة صغيرة للسكك الحديدية جنوب روسيا وسيل الكلام عنه لم ينقطع ، فقد صدرت بحقه عشرات الكتب بين سيرة ذاتية أو نقد متناولة حياته وأعماله وأفكاره ، واحدة من أولى الصور الني تتحرك أمامنا أن لينين قال بعد عامين من وفاته أن تولستوي كان مرآة للثورة ، وعلى حد سواء الثوار الشيوعيين آنذاك والحكومة الروسية كانوا يراقبون أثر وفاته على الشعب الروسي الذي شعر أنه فقد ليس كاتبا عظيما فحسب بل فقد صوت أفصح بالنيابة عنهم عن ثائر عظيم ضد الظلم والوحشية التي تعرض لها من قبل القياصرة الذين حشد آخر أبنائهم شرطته السرية لتتبعه ومضايقته وتحريض الكنيسة عليه بسبب معتقداته التي رأى فيها القيصر أنها يمكن أن تثير غضب رجال الدين وهو ما تحقق بعد ذلك .

الكاتب الإنكليزي أي . أن . ويلسون وهو مؤرخ سير وروائي وكاتب عمود في صحف انكليزية عديدة وقد أصدر أكثر من 40 كتابا آخرها سيرة ذاتية قصيرة عن هتلر ، لم يكن الوحيد الذي تناول الحديث عن تولستوي في هذه السيرة الجديدة لكنه استطاع ان يثبت حقائق لأول مرة لم يتنبه لها آخرون ممن كتبوا عنه منها كيف أحب الأديب العظيم الزراعة واصبح فلاحا ينافس عشرات الفلاحين الذين يعملون في مزارعه ما أغاظ بعمله هذا الطبقات الروسية الغنية الذين اعتبروا عمله تحريضا صريحا لعشرات الفلاحين والمزارعين الذين في خدمتهم كي يتمردوا على سلطتهم وسياساتهم الفوقية ، فبعد اسبوع من وفاته قدمت امرأة الى كافتريا للسكك الحديدية في موسكو لتجلس وتتحدث عن تولستوي واصفة إياه أنه أهمل أدبه وكتاباته لصالح حفنة من الرعاع والفلاحين ما جعل نادل الكافتريا يرفض تقديم الشاي لها .

ويلسون وهو يقدم سيرة تولستوي هذه التي جاءت متزامنة مع احتفالات العالم بالذكرى المئوية لوفاته يقول : ” عادة ما تكون هذه الذكرى فرصة لإعادة قراءة حياته وأعماله التي قد تشكل استفزازا لطرح اسئلة محيرة مفادها أن تلك الحياة والأعمال أصبح تأثيرها واضحا وهي جزء مما يواجهه العالم اليوم على الصعد السياسية والدينية والحياتية والتي تناهض في نفس الوقت كل أنواع القهر بما فيها الحروب ” ، لذا فقد كان تولستوي ممثلا لروح الأمة الروسية هذا إذا ما علمنا أن ولادته في العام 1828 ولادة غير فقيرة حيث كانت عائلته أحد أغنى الأسر الروسية ، وعندما شب أحب أن يجرب الحياة الخشنة فخدم في الجيش الروسي وشارك في حرب القرم وأصيب فيها بجروح بليغة انتقل بعد هذه التجربة الى تجربة الزواج من أجل بناء عائلة كبيرة تساعده في ادارة ممتلكاته الواسعة ، وهذا ما حصل بالفعل حيث أنجبت له زوجته صوفيا ثلاثة عشر من الأبناء بدأ بتعليمهم مع عشرات من أبناء الفلاحين الذين كانوا يعملون في خدمته حيث وجدوه بعد ذلك يجلس معهم على مائدة واحدة للطعام وينام بينهم ، وكان يختطف منهم أدوات الزراعة ليقوم بحرث الأرض وتعديلها وزراعتها بدلا عنهم ، كل هذا جرى وهو في حوزة عائلة كبيرة عاشت في كراسنايا التي كانت تقع الى الجنوب من موسكو على مبعدة 130 ميلا عنها .

ويلسون لم يفته وهو يستعرض كل تلك الذكريات من حياة تولستوي أن يقدم صفحات من عبقريته التي ظهرت في وقت مبكر حيث صور بواقعية ملحوظة وبشكل دقيق ليس فقط تلك الأيام الخشنة من حياته العسكرية بل الرغبة في معرفة أفضل السبل للعيش وهو ما ظهر جليا في معظم كتاباته سواء في تأملات الأمير أندريه في رواية ” الحرب والسلام ” أو في تساؤلاته في ” آنا كارنينا ” ، ثم يعرج لكتاب الكاتبة الإنكليزية روزا موند بارتليت ” تولستوي : حياة روسية ” ليقول عنه أنه شكل لديه وضوحا من أي سيرة قرأها عنه ، وبارتليت هذه كما يتحدث عنها كاتبة ومترجمة ومحاضرة متخصصة في تاريخ الثقافة والأدب والموسيقى تركز في أعمالها المنشورة وبشكل خاص على روسيا وأوربا الشرقية وقد درست في جامعات أمريكية وبريطانية متعددة صدر لها ” روسيا وفاغنر ” و ” فصص تشيخوف ” و ” رسائل تشيخوف ” وغيرها من الكتب ، وأنها حينما تناولت تولستوي بأقل من 500 صفحة لم تعطي لنفسها الوقت الكافي لتصوير مشهد واحد من مشاهد المجاعة التي ضربت روسيا وجعلت من الروائي العظيم يسارع لإقامة منظمة إغاثة لوحده لإنقاذ المتضورين من الجوع جاعلا من مزارعه في كراسنايا أرضا لزراعة التفاح الذي يعود عليه بمردودات مالية جيدة حتى يستطيع من خلاله شراء ما يحتاجه لمنظمته ، لكنها تمر على الأزمة التي طال أمدها والتي بلغت ذروتها في تحوله الديني عام 1877 بشيئ من التفصيل ، وهو أهم جزء يعتبره ويلسون في تناول بارتليت لسيرة تولستوي ، حيث أمضى النصف الثاني من حياته منزويا عن عالمه باحثا عن أجوبة للأسئلة التي كانت تؤرقه عن الدين والكنيسة والسلطة ، في تلك الفترة بالذات تخلى عن جميع متعه بما في ذلك الكحول واللحوم والتبغ وراح ينشر أفكاره في الخارج معتمدا في ذلك على أهم المقربين له من تلامذته وهو فلاديمير جيرتكوف ومرحبا بالوقت نفسه بالكثير ممن كان يزوره للتعرف على أفكاره ، وقد تكون تلك الفترة قد شغلته عن كتابته للرواية إلا أنه انجز خلالها أعمالا رصينة اتسمت بالتعليمية الإرشادية التي كان ينشدها مثل ” موت إيفان ” و ” القيامة ” وهي الأعمال التي جاءت بعد ” آنا كارنينا ” مركزا فيها وعلى مساحات واسعة على معتقداته الدينية والروحية ، ولو فرضنا – يقول ويلسون – أن أفكار تولستوي الدينية قد شابتها الفوضى غير المتناسقة على مستويات عديدة ، لكنها كانت ثورة على العائلة المالكة الروسية والكنيسة الأرثوذكسية التي كانت تدعم واحدا من الأنظمة السياسية الأكثر ظلما في التاريخ الأوربي .

في الصفحات الأخيرة من السيرة يكتب ويلسون عن عبقرية تولستوي أنها أنتجت ملامح قوية لرهبة رجل مفكر امتدت رحلته مذ كان بمعية أجداده في كراسنايا وحتى رحلته الأخيرة في محطة للسكة الحديد وهي تقاطعات أنتجت روائع أدبية خالدة منها على سبيل المثال لا الحصر ” الحرب والسلام ” و آنا كارنينا ” و ” القيامة ” ، نستطيع القول أننا نعيش تاريخ روسيا من خلالها بل تاريخ البشرية التي نجد لها صورا واقعية نحياها في الوقت الحاضر .

 

عن مجلة Slate

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail