“أن تقعي أرضاً ويكون اسمك أماني” – جديد زياد خداش

لم ألمس كتاب زياد خداش الجديد “أن تقعي أرضاً ويكون اسمك أماني”، لم أشمه كعادتي عند شراء كتاب جديد. وصلني بشكل الكتروني، وتصفحته نصا بعد نص. لن أقول أو سأحاول أن لا أقول الكلام المعتاد في تقديم الكتب. المفردات العادية لا تستهويني، بالأخص عند قراءة نصوص فيها من الحساسية ما في نصوص الصديق زياد خداش. الحساسية الأدبية لا تدرس، هي هناك أو ليست هناك، هي ميكانيزم عند كاتب قادر على تحويل فكرة إلى حس وحركة وأعضاء بيولوجية لا تخضع لمواصفات ومقاييس الحالة الإنسانية اليومية. يمزج زياد العناصر الشعورية بالعقلانية، مع انتصار رومانسي فريد، بالمفهوم الرومانسي الحديث، كأنك تسمع نصا أوبراليا لفاغنر، تهبط الموسيقى وتصعد، لكنها تتحرك أيضا داخل الصفحة وخارجها؛ بمعنى أن هنالك طبقات عميقة متوالية، هنالك حوارات داخلية تتشعب بشكل عضوي إلى حوارات خارجية وتعود في النهاية إلى الداخل. هنالك تدوير شعري في نصوص الكتاب (وفي البلاد الجميلة تحدث الحروب الجميلة، محمد الأبيض جداً والقصير)، تدوير يمسك بأطراف القصة من جديد كأنه يسترجع الفكرة الأولى. في نص رام الله تحت رام الله، الطبقات فيزيائية محسوسة، وهي معقولة أيضا؛ الذاكرة فيها تذوب و لا تذوب كشمعة ديكارت التي تحمل طبقتين من الفهم كرام الله المتخيلة.

هنالك أسباب عديدة لقراءة زياد، منها أنه جدلي يحتفل بالأشياء ويحرض عليها في آن واحد، منها أنه حكواتي وموسيقي في آن واحد، الموسيقى الهادئة في البداية والتي تتصاعد حتى الكارثة بالنفس الفاغنري كما ذكرت سابقا، منها أنه حقيقي، والحقيقة لدى زياد تتلوى كأفعى، سيتركك زياد هناك مع الأفعى، فليست مهمته أن يحذرك إن كان الخداع البصري جعل من الأفعى حبلا، أو نقطة، أو عصا، أو ظلا لحبل سري، أو مجازا لخطيئة، هو غير مسؤول عن كل ذلك. أنت المسؤول فقط أن تقرأ عمله بجنون مناسب.

نصان من الكتاب  

وفي البلاد الجميلة تحدث الحروب الجميلة

كانت المرأة التي مات زوجها في الحرب تمشي في الشارع، وكان الرجل الذي ماتت شقيقته في الحرب يبيع الترمس في الشارع، وكانت البنت التي مات شقيقها في الحرب تحب حبيبها في المكتبة، وكان الجد الذي مات حفيده في الحرب يشتري البقدونس من بائعات الرصيف المسنات، وكان الولد الذي مات أبوه في الحرب يذهب الى المدرسة، وكانت البنت التي مات خالها في الحرب تبكي خوفاً لأن دماً مفاجئاً داهم صباحها وكان الشاب الذي مات عمه في الحرب يشرب البيرة مع صديقته وكانت الأم التي لم يمت ابنها في الحرب تخون زوجها الذي مات في الحرب، وكان الزوج يموت في الحرب في اللحظة التي ولد فيها ابنه الوحيد، وكان الابن الوحيد سيموت في الحرب، وكان العجوز الذي كان على وشك الموت في الحرب يفكر في حياته التي هي سلسلة من الحروب، وكان الصديق الذي مات صديقه في الحرب يفكر في الموت في الحرب، وكان الرجل الذي مات جاره في الحرب ما زال مرعوباً من الحرب، وكانت المعلمة التي ماتت زميلتها في الحرب ما زالت تعلّم الطلاب في نفس المدرسة التي هدمت الحرب نصفها، وكان الشعب كله يعيش في الحرب، وكان الوطن الذي مات في الحرب لا يزال يموت في الحرب، وكان الكل (من مات ومن ينتظر) يتساءل: لماذا تعيش فقط في بلادنا الحرب؟، ألا تسافر الحرب؟ أليس لها أبناء في البلاد الأخرى تزورهم،؟، يا لهذه الحرب التي لا تموت أبداً في الحرب!،.
وكان الجواب حرباً منفجرة في فم حرب: الحرب الجميلة لا تحدث أبداً في البلاد غير الجميلة.

الخيبة في أربع لوحات

1
تتأخر خطوات أبي عن الاقتراب من باب بيتنا؛ فأتأخر عن النوم. منذ طفولتي وأنا أنام على وقع آخر خطوة من خطوات أبي الذي كان يسهر كثيراً في المقهى. حتى هذه اللحظة، لحظة الاقتراب من الخمسين، أظل مبحلقاً في السقف بانتظار خطوات أبي التي تتأخر كل يوم دون أن تجيء، فأركز وعيي في ذكرى صوت الخطوات، وأنام بعد تعب مخيالي شديد، أظن أنني وجدت حلاً: سأستأجر خطوات رجل فقير، أدربه على أسلوب قدمي أبي في الغناء، يأتيني في ساعة محددة، يخطو باتجاه بابي، يطرقه طرقةً واحدةً، ثم يمشي هو إلى بيته؛ لينام طفله المبحلق في السقف على خطواته، كما أفعل أنا تماماً.

2
نمل غزير يخرج الآن من لوحة المفاتيح، من بين شقوق أحرف الطباعة تحديداً، بينما أفكّر في طباعة فضفضاتي الصباحية لا أستطيع التوقف، ثمة كلام يجب أن أكتبه لكنني، أيضاً، لا أستطيع أن أكون قاتلاً للنمل، تلك الكائنات التي أحبها.
كلما طبعت حرفاً قتلت نملةً، كلما نطقت كلمةً سحقت فراشة، تلك هي الكتابة: حياة على جثة، ذلك هو الكلام: ميلاد على موت، فلتسامحني النملات الميتات، على أسطح حروفي المدماة، فلتسامحني فراشاتي التي قتلتها بالكلام، منذ جئت إلى هذا العالم.

3
العجوز التسعينية النحيلة، شبه العمياء، التي تطل علي بوهن من درج منخفض أمام بيتها الصامت بشدة، بينما أمر من أمام بيتها صباح كل جمعة، سألتني السؤال نفسه عشرات المرات: “يا ابني، في سيارات بمشوا اليوم في الشارع”؟.
العجوز لا تنتظر مني إجابةً، كما اكتشفت فيما بعد، فقط تريدني أن أقف، وأنظر إليها، وأقول لها صباح الخير.
وقفت مبتسماً كعادتي، نظرت إليها، قلت صباح الخير. ومشيت. خلفي تظل كلماتها الدافئة تتدحرج حتى أسمعها ترتطم بباب بيتي: “الله يرضى عليك، يسعد صباحك، يا ابني، الله يحفظك ويخلي أولادك، الله يربحك وينجحك، الله يسهل طريقك”.
كم من كلام دافئ من مسنين ومسنات آيلين وآيلات لفناء قريب، يتدحرج بحزن خلف المارة دون أن يدروا، حتى يستريح جثثاً عند أبواب بيوتهم.
افتحوا أبواب قلوبكم وبيوتكم لكلمات الوحيدين والوحيدات الدافئة الحزينة.
لا يحتاجون – يحتجن سوى إلى وقفة قصيرة في شارع، نظرة صغيرة، تحية صباح مقتضبة، حتى يكون يومهم – يومهن جميلاً، وذا معنى، أكثير هذا؟

4
في مركز لتأهيل أطفال الاحتياجات الخاصة، بينما كنت أزور أختي، لاحظت صبية في الخامسة عشر من عمرها، تروح وتجيء ضاحكةً بشكل هستيري في الممر وتطلق من فمها أصوات قبلات موجهة إلى الفراغ، حين حاذتني استوقفتها وسألتها: لمن تطلقين قبلاتك يا صغيرتي؟ فنظرت إليّ نظرات مخنوقة مذهولة ومضت دون كلام، سألت المرشدة عنها، فقالت لي إنها تقبل نفسها، فأمها قاسية وأبوها ميت، مضيت إلى بيتي، ورحت في الطريق أطلق في الهواء قبلات كثيرات متوسلاً للهواء أن ينقلها إليها.

 

تقديم : اشرف الزغل

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail