حدود المقدس والمدنس / جورج باتاي

George Bataille Laghooفي الحالة البدائية كانت العناصر السعيدة والطاهرة تتعارض داخل العالم الإلهي مع العناصر النحسة والنجسة،وكانت هذه وتلك تبدُوَان على السواء بعيدتين عن الدنس الدنيوي.لكننا لو نظرنا ضمن حركة مهيمنة للفكر التأملي،فإن الإلهي يظهر لنا مقترناً بالطهارة والدنيوي بالنجاسة.وهكذا يحدث انزلاق، انطلاقاً من معطى أول تكون المحايثة الإلهية فيه خطرة ويكون المقدس مشؤوماً يقضي بالعدوى على كل ما يقترب منه،وتلعب الأرواح الخيِّرة دور الوسيط بين العالم المدنس وتفلُّت القوى الإلهية – وتبدو بالمقارنة مع الآلهة السوداء أقل قداسة.

هذا الانزلاق القديم يحدث تغيراً حاسماً.ذلك أن الفكر التأملي يحدد قوانين أخلاقية،ويملي روابط إجبارية بصورة كلية بين الأفراد والمجتمع أو ما بين الأفراد.وهذه الروابط الإجبارية هي أساساً التي تضمن نظام الأشياء وتحميه. وتستعيد أحياناً محظورات يؤسسها النظام الحميم (كالقتل مثلاً).لكن الأخلاق تختار ضمن قواعد النظام الحميم .فهي تعزل،أو على الأقل،لاتدعم قواعد المحظورات التي لا يمكنها اكتساب قيمة كلية،والتي تنمّ بوضوح عن حرية نزوية من النظام الأسطوري .وحتى إذا أخذت من الدين قسماً من القوانين التي تشرعها،كسائر القوانين ،فإنها تؤسسها على العقل وتربطها بنظام الأشياء.

تملي الأخلاق تلك القواعد التي تنبع كلياً من طبيعة العالم الدنيوي،وتضمن الديمومة التي من دونها ينتفي الفعل.هي إذن، متعارضة مع سلم القيم التابع للنظام الحميم والذي يضع في المرتبة الأولى القيمة ذات المعنى المعطى في اللحظة.وهي تحرّم الأشكال الحادة من الإتلاف التفاخري للثروات(مثل التضحية البشرية والتضحية الدموية…) إنها تحرم عموماً كل إتلاف غير مجدٍ.لكنها لا تصير ممكنة إلا لحظة انزلاق السيادة،في العالم الإلهي،من الألوهية السوداء إلى الألوهية البيضاء،من الألوهية المشؤومة إلى الألوهية الحامية للنظام الواقعي؛أي أنها تفترض فعلاً جزاءً للنظام الإلهي. وعندما سلم الإنسان بالهيمنة العملية للإلهي على الواقع،أخضع الإلهي للواقعي عملياً.واخضع عنفه إلى جزاء النظام الواقعي الذي هو الأخلاق بشرط أن يخضع النظام الواقعي في الأخلاق للنظام الكلي،وهو نظام العقل. فالعقل هو الشكل الكلي للشيء(المتماثل مع ذاته) وللعملية(الفعل).ويتفق العقل والأخلاق مجتمعين،ومعزولين عن ضرورات الحفظ والفعل في النظام الواقعي،في الوظيفة الإلهية التي تمارس سيادة خيِّرة على ذلك النظام.وهما يعقلنان ويهذبان [أخلاقيًّا] الألوهية في الحركة نفسها التي تكون فيها الأخلاق والعقل مؤلَّهَيْن.

هكذا تظهر عناصر تصور العالم الذي يُطلق عليه عادةً اسم الثنائية والذي يختلف عن التمثُّل البدائي المبني بدوره على انشطار ثنائي،عبر انتقال الحدود وقلب القيم. في التمثل البدائي يكون المقدس المحايث معطى انطلاقا من الحميمية الحيوانية في الإنسان والعالم، في حين يكون العالم الدنيوي المدنس معطى في تعالي الموضوع الذي لا يمتلك حميمية تكون الإنسانيةُ ماثلةً فيها.أثناء التعامل مع المواضيع،وإجمالاً في الصلات مع المواضيع،أو مع ذوات يتم التعامل معها على أساس أنها مواضيع،تظهر مبادئ العقل والأخلاق في أشكال ضمنية لكنها مرتبطة بالعالم الدنيوي.

إن المقدس نفسه يكون منشطرًا: فالمقدس الأسود والنحس يقابل المقدس الأبيض الخيِّر، والآلهة التي تشارك في النوع الأول أو الثاني لا تكون عقلانية أو أخلاقية. أما ضمن التطور الثنائي فإن الإلهي يصير عقلانيًّا وأخلاقيًّا ويلغي المقدس المشؤوم في الجانب الدنيوي.وهكذا فإن عالم الروح (وعلاقته واهية بعالم الأرواح الأول-حيث كانت أشكال الموضوع المتميزة مضافةً إلى النظام الحميم اللامتميز)هو العالم العقلاني للفكرة الذي لا تنفصم وحدته.ويرجع التقسيم إلى خيِّر ومشؤوم،أو سعيد ونحس، ليظهر في عالم المادة حيث يكون الشكل المحسوس قابلاً للإدراك تارةً(في تماثله مع ذاته ومع شكله العقلاني وسلطته الفاعلة) وغير قابل للإدراك طورًا،فيبقى متحركا خطرا،ويشكو من نقص في العقلانية،فليس سوى مصادفة وعنف، ويهدد الأشكال الثابتة والفاعلة بالإتلاف.

 

جورج باتاي : فيلسوف وعالم إجتماع فرنسي (1897 – 1962).  

من كتاب نظرية الدين. ترجمة : محمد علي اليوسفي

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail