فضلة قصص / جمال القواسمي

Jamal Qawasmi Laghooهذه قصة فضل، الذي خسر ثلاث أسنان في شجار مع معلمه الميكانيكي وهرب من الكراجات وعائلته وهو ابن أربعة عشر عاماً. عركته الشوارع والمهن والأحلام الصغيرة المرهقة، ويعتبر نفسه غلطة مطبعية في اللوح المحفوظ. هو يغسل منذ سنتين سيارتي مع أطفال صغار يتغيرون بين فينة وأخرى. أقسم لي ذات يوم انه لا يعاملهم بقسوة ولا يبخسهم حقهم ولا يختلس بقشيشهم، لكني أشكُّ بكلامه. يتنهد ويقول لي: أنا مثلهم، اشتغلت في عشرات المهن، وعند عشرات المعلمين، بس إن شاء الله يكونوا احسن مني ويلتقطوا مهنة تكرمهم في حياتهم!!

هذه قصة فضل، الذي يصارع كل شيء في سبيل العيش، يشتري الجريدة ويقرؤها كلَّ يوم، وكثيراً ما تمنى ان يكون له كشك يبيع فيه الكتب والمجلات والصحف ويقرؤها، وكثيراً ما حلم بأن يصبح كاتباً صاحب قلم مسهول ومعسول، يقول ذلك ويضحك ضحكة هيستيرية داعرة لا نهاية لها إلا برضابه وهو يرشقه في الجو. ويهددني بأنه سينافسني بالكتابة ويُكسد كتبي لأنَّ بوسعه أن ينجز كتاباً كلَّ يوم يحوي جملتين: صعد فضل على الحصان، نزل فضل عن الحصان، وما بينهما صفحات مليئة بـِ دركن دركن درركن..

هذه قصة فضل، غاسل السيارات العجوز الطيب الذي يخونه لسانه وسرعة بديهته وعجزه عن التعبير، لكن تسليه وتضحكه فكرة انني كاتب. رأى ذات يوم قصاصات الورق ومفكرة لكتاباتي في حقيبة نسيتها في المغسلة، وأدرك انني كاتب. اعتذر لي لأنه اضطر ان يفتح الحقيبة ليتعرّف على صاحبها، ولم يجد ما يدلُّ عليَّ. أخبرته انني محامٍ والكتابة لي غلطة مطبعية في اللوح المحفوظ. وقد أعجبته العبارة، وتنهد وابتسم تلك الابتسامة الرائقة، زافراً: الله!! وبعد صمت طويل وهو يذرع المغسلة هنا وهناك، عاد ليقول لي: هذا أنا بالضبط، هذه جملة تلخِّص حياتي: أنا غلطة مطبعية في اللوح المحفوظ! ثم صمت وضحك، وسألني: نفسي أعرف شو هالقصاصات الورقية هذه؟ أخبرتُه انها فضلة قصص؟
– شو يعني فضلة قصص؟
– يعني بقايا او فضلات قصص، بتعرف، لما بكتب قصة، بقص قماشتها وبفصِّلها مثل الخيَّاط على ناس من واقعنا، بقايا الوصف بحتفظ فيه هون.. بتقدر تقول إنها معلومات عن أناس أو مقولات لناس حقيقيين أعرفهم من خلال عملي كمحامٍ او سماعي عنهم.
– بتكتب عنهم في قصصك لأنهم حقيقيين!؟ صدقني أنا حقيقي أكثر منهم، أكتب حياتي.
– راح تنشهر والناس يوجعوا رأسك.
– لأ، كله ولا وجع الرأس، بيكفي وجع الكلى ووجع القلب، قه قه قه…

هذه قصة فضل، الذي كثيراً ما طلب مني كتابة سيرته، الأمر الذي أضحكني دائماً. قال انه كان بنَّاءً ورياضياً وكاد يظفر ببطولة في الملاكمة لولا نيعه الذي انكسر، وعتَّالاً وشغيل قهوة وسبع مهن أخرى. وحين سألته لم لا يكتبها، ضحك وقال مجازياً ان القلم لا يطاوعه. كثيراً ما شعرتُ ان ساحة الكتابة والكتب والقلم والصحف هي حلبة يُهزَم فيها دائماً بالضربة القاضية. كثيراً ما جعلني فضل أؤمن بانه أضطر للتخلِّي عن كتابة الشعر والنثر والحجابات وديباجات العرائض ونصوص التهاني والتعازي للشعراء وكتاب القصة والرواية.

هذه قصة فضل الذي سألته ذات مرة: كيف أصفك!؟ ماذا أكتب عنك؟ فأوصاني بصيغه البلاغية الشعرية والرشيقة المفقودة بأن أمغط عمره وأجعله شخصاً يعيش على أعتاب السبعين، ورجاني بأن تنتهي قصته بحفلة عرسٍ وهو جالس مع عروسه على اللوج وحولهما جدار من الورد، أو تنتهي قصته بعودته في المطار، مليونيراً من الهجرة وجميع أهله وذريته في استقباله، وبينه وبينهم شرائط ممنوع اجتيازها يقطعها ويقطعها أهله اشتياقاً وحباً.

وحين تذاكيتُ عليه قائلاً له انه لا يحبّ الشهرة، طالبني بأن استره فأشوِّه أوصافه ونصحني باستغلال فضلات قصصي، ولا أذكر أسمه لكي لا يميِّز أحدٌ ما شخصيته، كأنَّه جندي مجهول. رجاني بأن أصفه وصفاً عميقاً ومميزاً، فأجعله حكيماً أو فيلسوفاً أو نبياً أو ملاكماً قوياً ومفوَّها مثل محمد علي كلاي أو ميكانيكياً ذكياً مثل غالب مُعلِّمه الميكانيكي في المنطقة الصناعية.

هذه قصة فضل الذي قال بعظمة لسانه وإعجازه الأدبي والفكري والفلسفي إنه تعوزه الحكمة وليونة اللسان وعبير اللغة وسلاسة اليراع في حلبة الكتابة؛ إذن، سأجعله يبدو بسيطاً وطيباً لاستر عيب حكمته المريضة، وبليغاً رغم انه يُخطئُ في النحو ويخونه تعبيره معظم الأحيان وتتلاقفه على حبال حلبة الواقع قبضات الزبائن والمعلِّم ومالك البيت والبقال ومصلحة المياه والكهرباء وكثرة المشاغل العائلية.

هذه قصة فضل الذي كلما جرَّبه قصوره التعبيري، أو الاقتصادي او الفكري، حشاه الألم رصاصة نيران صديقة في زناده وأطلقته الحيرة اختياراً خاطئاً وضحكة هيستيرية لا معنى لها إلا كتغطية للموقف البائس ذاته الذي اسمه العجز.

هذه قصة فضل الذي يشعر انه ليس حكيماً بما يكفي لكي لا يعيد الخطأ ذاته، ويبدو انه ليس مؤمناً بما يكفي لكي لا يُلدغ من الجُحر مرتين، وليس ذكياً بما يكفي لينكر ذلك.

هذا هو فضل. بل ان فضل ليس اسمه؛ كان عليَّ أن أختار له اسماً غير اسمه: فاخترت فضلاً. فضحك وقال: لأ، سمِّيني فضلة، فضلة اسم غريب، مثلي غريب، فضلة مثل بواقي الطعام. ولا تنسَ ان تكتب فكرة الغلطة المطبعية على لساني في القصة!! أترون كم أنَّ طيبته وبساطته تجعله عميقاً كحكيم، فها هو فضل يزيل عن ذاته، بفضل استعارة مسروقة، مسؤولية هشاشته وبؤسه، ويحمِّل وزرها للقدر.

هذه نهاية قصة فضل الذي كثيراً ما تمنى أن يكون سعيداً وتنتهي حياته بالنصر او بالفرح! كثيراً ما سألته: لماذا تنتهي!؟ فقال لي ببساطته المعقِّدة: كل شيء ينتهي، فلماذا لا ينتهي بحفلة للجميع وسط صرخات محتفلين به حوله يصرخون فيه: اعطيها لكمة يسارية؛ اعطيها لكمة يمينية!؟!! إنه عيد ميلاده؛ نعم، مثل كل القصص الجميلة التي تنتهي بزفاف أو حفلة كبيرة، ستنتهي قصته بعيد ميلاد! لِمَ لا؟ لكن خياله الجامح لا يقوى على ترويضه او تطويعه او تفسير وجود حبال من الورد بينه وبين مشجعيه، بل تفاجأ وهو يرى ان في انتظاره، قبيل حفلة عيد ميلاده، طابوراً من الملاكمين، وهزائم جديدة ومرتبة بكل وحلها ودمها ومرارها، انتظرتْ كِليتَه، التي سيبلغها العطب، كِليةٌ جديدة تبرع بها أحدٌ ما، وتجهَّزتْ أجهزة إنعاش القلب لقلبه رقيق المشاعر الذي سيهبط نبضه، وأتى طبيب أسنان سيعتني بضرسه الأخير الذي يتخلخل. هذه قصة فضل الذي أغمض عينيه، زرع في العالم أمنية أن يصبح كاتباً، صفق جمهور المشجِعين السائمين طويلاً، صارخين فيه مرة أخرى: فضلة، فضلة، فضلة!! لكن فضل لم يفتح عينيه أبداً. ولا يعرف لماذا عليه ان يتمتم، على نحو لاإراديٍّ: اللعنة، الآن، الآن بالضبط، سأبدأ الجولة الخمسين.

 

24-3-2013

* القصة من ضمن مجموعة جديدة “لا ذات لي” صدرت للقاص الفلسطيني جمال القواسمي في كانون اول 2014

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail