شفيقة ومتولّي – عندما طردت الثورة النساء (2/ 2) / تامر مصالحة

مفهوم المرأة الذكوري في مجتمعنا يجعل من تصوّرنا لآدمية المرأة على أنها تتمحور حول مفهومي الجنس والجمال، لذلك فالعقاب لا يكتفي بمجرد القتل كقتل بل بالتشويه وكأنّ القتل وحده ليس قصاصا كافيا.

” بسرعة متولي طلع فوق
يقول ولا حد معايا م تفوق

متولي يطلب من أصدقائه أن لا يصعدوا معه ربما إعلاناً منه أن القتل يجب أن يتم عبر أقرب الناس لشفيقة، وهذا كي لا يكون من يشكّك في أنه الذي قتل أخته تثميناً لشرفه، وربما لأنّ حفني أحمد حسن أراد أن ينهي دور الأصدقاء ليبرّءهم دون الحاجة للوقوف في المحكمة كمن اشتركوا في جريمة قتل، وسنرى لاحقاً أنه لا أحد يتفطن إلى دور الأصدقاء الذين لن يمثلوا في ذهن القاضي أو في ذهن المستمعين كأشخاص يجب على الأقل البتّ في مسؤوليتهم الجنائية لما سيحصل لشفيقة.

شوف السكرانة لما تفوق
وشافتو وفاقت من الخمرة
قالتلو: خدني وأتوب على إيدك”

حتى بعد أن قص لنا حفني أحمد كيف تم إجبار شفيقة على أن تسكر، يذمها أمامنا حفني أحمد حسن على لسان متولي بنعته إياها “بالسكرانة”، مع إننا نعرف القصة كما يعرفها هو، إلا إننا لا نتوقف عادةً على هذا النعت وهذا الاتهام، نحن تماماً كمتولي قد فقدنا أي إمكانية لإنصاف شفيقة، ونحن على استعداد تام أن نتقبل وندين شفيقة بأي اتهام يوجه لها حتى خالف الحقائق الواضحة أمامنا. السبب في هذا هو أنها مذنبة في عين متولي كما أنها مذنبة بعيوننا كمجتمع ومستمعين، بجريمة الشرف، التي تحوي داخلها كل الجرائم والانحطاط الخلقي الممكن نسبه لامرأة فاقدة للشرف. بل أنه يكفينا الاتهام بالشرف لكي ندين المرأة بهذا الاتهام دون الحاجة لإثباته، والإدانة تكفي للحط من آدمية شفيقة وأي امرأة بشكل عامّ، حال وصمها بمثل هذا الاتهام، لكي تصبح المرأة التي لطخت شرفها حَمالة لأي انحطاط أخلاقي ومدانةً بأي فعل غير أخلاقي آخر. هذا السبب ذاته هو الذي يجعل طلبها للتوبة والرحمة لا يتعدّى كونه محاولة بائسة لا فرصة لها فيها! فالتوبة للآدمي إن أخطأ! ليس للمرأة الفاقدة لشرفها، فهي منقوصة الآدمية قبل أن تلطخ شرفها لكونها امرأة، وهي إن لطخت شرفها تقطع ذلك الحبل الذي يصلها بالآدمية، والسبب في ذلك هو كونها تابعة كالمتاع لعائلة ما، لأخ أو لزوج، الخ …حقها في الحياة وبسلامة جسدها ليس أكثر من امتداد لحقّ الرجل في كرامته، فكرامة الرجل هي التي تؤسس الحقّ في احترام المرأة كتابعة له، وإذا مُسّت هذه الكرامة انقطعت الصلة بين آدمية الرجل والمرأة.

الأنكى من هذا هو أن يصبح هذا “الحقّ” بالمعاقبة المعطى للذكر “واجباً” يتم من خلاله إثبات وإشهار أنّ قطع الصلة ما هو إلا فعل له بعد جماعيّ تقنينيّ يؤسّس ويؤكّد عبر الممارسة أنّ آدمية المرأة هي آدمية مشروطة، وبالتالي منقوصة. المرأة التي تتهم بقضية الشرف لا تتهم فقط بالإضرار بحيزها الخاص أو بعائلتها القريبة بل هي متهمة بالإضرار بالحيز العام المتعلّق بمبنى المجتمع ككلّ. فمن تحاول هدم الصلة بين الكرامة والتبعية عبر تلطيخ شرفها، وبالتالي كرامة الذكور المعنيّين بشرفها لأنّها تابعه لهم، إنما هي تهدم ما يؤسّس لآدميتها، وجزء من هذه الآدمية هو إمكانية الصفح والتوبة وهي ليست أهلاً لها. نستطيع أن نستشفّ مثل هذا المنطق في مصطلحات دارجة في ثقافتنا سمعناها مراراً كالقول بأن: “العار ما بغسله إلا الدم”، أو كما يقوله بقناعة تامة متولي لشفيقة:

“قاللها: يا شفيقة بعد ايه إتوبى
وتتمحكي وتقولي مكتوبي
دي رقعة ما تطلعش من توبي!”

ومجدداً نستطيع أن نرى كيف يحكم حفني أحمد على الواقع وتقييمه بشكل يفقد من شفيقة آدميتها أو أيّ إمكانية للتعاطف معها، وهو بذلك مستعد لمناقضة الواقع الذي وصفه هو شخصياً، وهذا يظهر هنا جلياً بتقييمه لما قالته شفيقة، فقد استجدت شفيقة الرحمة والتوبة من متولّي، لكن حفني أحمد يجاوب شفيقة على لسان متولي “بعد ايه اتوبي وتتمحكي وتقولي مكتوبي”.. فلنقف قليلاً عند اختياره لكلمة “المماحكة” وهي تعني في اللغة العربية الجدال الشديد والعنيف أو اللجاجة والمنازعة في الكلام عند شدة الغضب أمام خصم لك، لكنّ السؤال الذي يعلو للأذهان هو: هل يلائم هذا الوصف ما كان من شفيقة في حديثها مع أخيها؟ الجواب طبعاً لا! فهي لم “تماحك” بل حاولت أن تستجدي الرحمة وطرق باب التوبة. فلم يصلنا على لسانها أيّ مماحكة بل ذلك الرعب الممزوج باستجداء الرحمة الخائبة وشبه الاستسلام. فلم يأت حفني أحمد حسن على لسان شفيقة بأيّ ردّ مماحك أو عنيف أو مجادل! مرّةً أخرى نستطيع أن نرى أنّ هذا ليس وصفاً موضوعياً لما قامت به شفيقة بل طعن يهدف إلى الحط من آدميتها. فبما أنها فاقدة للشرف، فهي لا تستجدي، بل “تماحك” كما يليق ونتوقع من مومس. ما نتوقعه هو المهم لا الأفعال أو الأقوال التي حصلت في الواقع! فهي ليست ذات أهمية، وهذه رمزية أخرى لتبعات الشرف وتجلياته، اذ يكفي الإعلان أو الاتهام لامرأة ما بأنها فاقدة له، حتى نفقد كأفراد كلّ حسّ بالرأفة، لا بل بالموضوعية تجاه هذه المرأة. وهذا ما يثبته لنا حفني أحمد حسن لأننا إجمالا لا ننتبه لهذا التناقض بين وصفه لحيثيات الحدث وتقييمه بكل ما يتعلق بشفيقة.

اذاً، وبعد أن أعلن متولي بأن شفيقة فاقدة للآدمية لأنها فاقدة للرحمة، وثانيةً واحدة قبل أن تقتل شفيقة بالسكين، يسأل حفني أحمد حسن على لسان متولي السؤال التالي الذي يتراود في ذهنه، وهو يأتي بحسب وصف الشاعر للسكين وبما يرمز له حفني احمد حسن بأنه العنف الشديد بكلمة “الغضب”:

“متولي دا راجل تقيل وساكن

متولي دا راجل تقيل وساكين
وراه بيبان البيت سكين!
أتى بالغضب وفِ إيدو السكين
وقال دي لو كان عليلة مين يزورها؟!”

“متولي الرجل الثقيل والساكن” لم يفجّر العنف بشكل عشوائيّ، بل هو “أتى بالغضب” أي بالعنف الممنهج لا العنف العبثي النابع من فقدان العقل، كما أتى بالسكين المخبّأ وراء أبواب البيت، ولاحظوا أنّ هنالك رمزية في القول أن وراء أبواب البيت، كل بيت وأي بيت بالعموم كبيت العائلة وبيت الزوجية، تكون هنالك سكين! ففي كل بيت كحيز خاص، هنالك سكين مخبأ! أي أنّ هنالك تهديدا مبطنا بالعنف تُهَدَد به النساء من قِبَل من يستطيع أن يفعله من الذكور، فكل ذكر يستطيع إن أراد أن يأتي بالسكين الرمزي الموجود “وراء بيبان البيت”، وكل ما بقي له هو أن يأتي بالغضب ومسبباته، لكن السكين موجود عودا على بدء وراء كل باب بيت، وفي كل علاقة بين الرجل والمرأة، هذه رمزية قوية لا أتصوّر أن حفني أحمد حسن قصدها، لكنها مع ذلك تفرض نفسها وبعدها الرمزي على النص. العنف أو الغضب هو عنف مبيّت، لأنه قصاص مقنّن لذنب متوقع، وعليه فهو عنف منظّم. والسكين ما هو إلا تهديد ووعيد يلبس لباس العادات والتقاليد وازدواجية الشرف والكرامة، أو الثأر والعار.

هنالك تناقض آخر بين الفعل ووصفه يدعونا إلى التوقف عنده في هذه الأبيات، هو وصف متولي بأنه رجل “ثقيل وساكن”: فهو ينوّه بشجاعة متولي وبرودة أعصابه، وأثبت لنا قوّته وثقته بنفسه باعتباره إنسانا منطقيا ومتعقلا، فهذه ليست جريمة عاطفة لأن جرائم الشرف في المطلق ليس جرائم تحكمها العاطفة بل العقلانية التي تفهم جيداً ما يجب فعله. وصف الفعل المتوقّع، أو بالأحرى وصف الفاعل متولي، بالشجاعة والثقة بالنفس قبل الإقدام على العمل هو تقييم سابق للفعل، تمّ تقديمه على الفعل لأنّ حفني حسن أحمد طلب بذلك ضمان ولائنا وتقديرنا لمتولي حتى في أكثر لحظاته دمويةً، ولأنه يدرك أنّ هذا الفعل يقلب الميزان أو المقياس القيمي المتعلق بما يفهمه المجتمع كشجاعة، فهو يريد الالتفاف على قيم ذكورية بديلة قد ترى الاعتداء على امرأة لا تملك من أسباب المقاومة والدفاع عن نفسها شيئا، عملا جبانا. هذا الجبن قد نستشفّه مثلاً من عدم اهتمام متولي بمعرفة من هو وليف شفيقة الذي قد يكون السبب في ما آلت إليه! أو معرفة إن كان هنالك سبب له علاقة بالعائلة التي تسببت في إخراجها من البيت. حفني أحمد حسن توقع مثل هذه الشكوك، وعدم الارتياح الذي تفرضه صورة رجل مسلح بسكين يذبح وينكل بامرأة، لذلك استبق صورة الفعل بتقييم الفاعل وكأنه يريد أن يمنعنا من التفكير والتقييم الذاتي لصورة متولي وفعلته، ولذلك يصفه لنا بالشجاعة والثقة بالنفس، وبأن عمله هو عمل نابع من منطلق أخلاقيّ، فهو دليل على أن متولي هو شخص سويّ وطيّب من الممكن أن نزوّجه ابنتنا أو اختنا دون أن نخاف من مستوى العنف الذي يستطيع أن يصل له. ويضيف حفني أحمد حسن تبريراً أخيراً يسجّله لنا عبر قراءة سيكولوجية او نفسية لما يدور في ذهن متولي الذي يسأل نفسه مبرراً لم هو مقدم على فعله: “دي لو كانت عليله مين يزره؟ا”، وكأنه يريد أن يقول بهذا: أن هذا الموت هو رحمة لشفيقة وحلٌ فيه رأفة لا قسوة، شجاعة لا جبن! قد تكون شفيقة الآن امرأة جميلة وعندها مريدون وهنالك قيمة ما لحياتها، لكن حين تمرض أو تكبر أو تفقد جمالها وهو الشيء الوحيد الباقي لها في نظر متولي، فمن سيرأف لحالها عندها؟ لا أحد طبعاً! لأنها ليست إنسانا بنظر متولي، بل مجرد جسم أو مادة تفقد قيمتها إن ترهلت! بواسطة هذه الالتفافات على الواقع والتبريرات المبطنة، يضمن حفني أحمد حسن ولاءنا وتقييمنا لمتولي وفعله الذي كان من المفروض أن يثير اشمئزازنا وسخطنا على جبنه في استهدافه امرأة، واستهدافه اضعف حلقة لغسل شرفه من العار مفسحين بذلك المجال لحفني أحمد حسن، للسلطة ومتولي ليأتي الأخير بالغضب وبرعب السكين متلهفين لرؤية تجلي الفضيحة الملطخ بالأشلاء الممزقة والدم:

“أتى بالغضب وفِ إيدو السكين
وقال دي لو كان عليلة مين يزورها؟!
“وجاه سريع تلف منظرها”

متولي لا يقتل شفيقة رأساً، بل يثبت أولاً نقطته وسؤاله الاستنكاري “دي لو كانت عليلة مين يزرها؟” بواسطة تشويه شفيقة وإفقادها لجمالها، ولهذا العمل عدة دلالات ومفاهيم:

أولاً ـ هو أن متولي كممثل للمجتمع ألذكوري يهاجم ويعطب- في شخص أخته شفيقة- ما يراه كل المجتمع عامل قوّة وتهديد عند المرأة على المجتمع الذكوري، فهو يهاجم جمالها لأن هذا الجمال من ناحية هو الشيء الذي يربطها بآدميتها، ومن ناحية أخرى هو السلاح الذي تهدّد به المجتمع والمبنى المجتمعي المبنيّ على السلطة الذكورية؛

ثانياً ـ هو يتلف فكرة أنها مخلوق جنسي! كأن القتل لم يكن كافياً لكي يغيّب شقيقة، فقد كان على متولي تغييب أو هدم فكرة كونها مخلوقاً جنسياً؛

ثالثاً ـ متولي يتلف عامل القوة الذي هو نفسه يخافه، وهو جمال شفيقة وجاذبيتها الجنسية! وهذا رغم كون متولّي أخاها، ونكاد نقول أنه بعمله هذا، هو يريد أن يحصن نفسه ويغسل أفكاره التي قد تحتوي على انجذاب جنسي لأخته أو نظرة جنسية لها من قبله أو من قبل أفراد عائلته، وهذا التفسير ليس بالشيء الغريب إذا ما نظرنا لهذه الظاهر المنتشرة في مجتمعاتنا الشرقية وهي ظاهرة طريقة معالجة سِفاح الأقارب، فالمجتمع عادةً ما يعالج هذه الظاهرة بذبح ضحية السِفاح التي تكون في الغالب المطلق المرأة التي يغتصبها أحد من أقربائها، فيكون الحل السهل المتاح للعائلة هو قتل ضحية السفاح والاعتداء، وكأنّ جاذبيتها وتأثيرها الجنسيّ المتأصل في خَلقها وخُلقها هو الذي يغوي أفراد المجتمع للرذيلة حتى الأقارب منهم كالآباء والإخوء الخ. فالسِفاح هو ذنب المرأة وكونها مخلوقاً جنسياً لا يعرف كبح جموحه. ومتولي يعلن بفعله هذا إذاً، انه عبر هذا الفعل لا يوجد لهذه القوة الجنسية لشفيقة أيّ تأثير عليه، ومن الناحية الأخرى هو يريد أن يحصن نفسه وعائلته بإعطاب هذه القدرة ويعطي نوعا من الإثبات العلني الذي يتحقق بمثل هذا العنف والدموية الشديدة، أن ما حمل شفيقة على الهرب لم يكن سفاح الأقارب او خللا أخلاقيّا داخل العائلة فشفيقة ليست الضحية، بل العائلة هي التي كانت ضحية رغبتها الجنسية الجامحة التي لم تقدر أن تلقى مبتغاها غير الشريف في كنف أسرتها والتي سبق أن قال عنها حفني أحمد أنها عائلة كريمة لا شائبة تشوبها.

رابعاً؛ مفهوم المرأة الذكوري في مجتمعنا يجعل من تصوّرنا لآدمية المرأة على أنها تتمحور حول مفهومي الجنس والجمال، لذلك فالعقاب لا يكتفي بمجرد القتل كقتل بل بالتشويه وكأنّ القتل وحده ليس قصاصا كافيا، إذ أن على هذا القصاص أن يتضمن سلب ما يتصوره المجتمع عاملا أساسا يُعرّف ماهية المرأة وآدميتها ويلخصهما! وعليه يكون إتلاف المنظر بندا أساسيا من بنود القصاص الذي ينتهي بالقتل، القتل بهذا المفهوم هو ثانوي للتشويه، فهدف التشويه هو الضرب العلني لما يراه المجتمع ماهية المرأة وعامل القوة عندها، فالتشويه هو ذلك العنف بعلانيته المسرحية، وهو ما يغسل العار.. أما الموت فهو ما يدفن ويواري ضحيته وذاكرة المرأة التي كانت مسؤولة عن العار، هو بمثابة الحلّ الذي يعيد الأمور لنصابها، ويرجع السكين وراء باب البيت لكي نعود ونتحدث عن الحميمة العائلية والشرف والكرم والأمومة والزواج وحتى الحب الشريف متجاهلين السكين إلى حين.

“وعزل الجثة من زورها”

طبعاً يغالي متولي في القتل والتنكيل بشفيقة حتى بعد موتها، وهو بذلك يريد أن يظهر مدى اعتراضه على فعلها بموازاة الإهانة التي سببتها له ولعائلته بمدى دموية المشهد. ثم أن القتل يجب أن يكون دموياً ومسرحياً بما يوازي البعد الدرامي للبطل ولملحمية القصة، ولكن الأهم من هذا كله أن البعد الدموي المسرحي في القتل جاء ليثبت القانون، عبر التعسف في القصاص والمغالاة فيه، فمتولي لا يعاقب شفيقة بتقطيعها فحسب والتنكيل بجسدها الذي يريد محوه أو تشويهه ليفقد آدميته، وقدرتنا على النظر عليه كجسد كان تابعاً لامرأة، إنما هو يريد معاقبة النساء أو إخافتهن ليثبت السلم الاجتماعي والسلطة الذكورية التي كانت قبل فضيحة العار.

متولي يريد أن يفحص عبر التجربة وأخذ القوانين والمبنى الاجتماعي إلى أقصى حدوده إذا كنا كمجتمع متفهمين لما فعل. والأهم من ذلك إذا كانت الثورة وسلطتها حديثة الإنشاء متفهمة للعمل. فهذا هو امتحان الولاء والتماهي الكبير المطلوب من الثورة وهي الصفقة المطلوب عقدها بين السلطة وبين الصعيد أو ما يتخيل حفني أحمد أنه يمثل ماهية الصعيد! وعلى هذه الصفقة وعلى هذا التنازل من قبل الحكومة، عليه أن يكون علنياً وفوق أشلاء شفيقة الممزقة على الحكومة أن تؤيد وتتفهم أشد تجليات العنف الأُسري وجرائم الشرف لكي لا يكون هنالك مجال للشك في تناغم المجتمع والسلطة.

“وطلع البلكونه بسكنتو يقول:
جرحي في قلبي سكنتو
يا ناس وسعوا لي سكه انتو”

كما هو جلي من هذه الأبيات فإنّ إشهار العنف وشدة دمويته هو أحد أهم مفاهيم جرائم الشرف، متولي لا يقتل شفيقة سراً بل هو فخور بفعلته هذه ويريد نشرها ويطالب المجتمع باحترامه وهو حامل سكينه التي تقطر دماً.

وعلى الرغم من وجود الضحية ملقاة تحت قدميه إلا انه غير قادر إلا على تصوير نفسه كضحية جرحت في قلبها فما كان منها إلا أن طلبت أن تداوي جرح قلبها. متولي يشرح للعامة أن ما فعله هو دفاع عن النفس وليس اعتداء، حتى لو ظهر المشهد على أنه دموي وفيه اعتداء وتعسف! إلا أن الواقع بحسب متولي هو أن هذا العمل كان متناسباً مع “جرح القلب” الذي طلب متولي الضحية مداواته. وها نحن نشاهد تغييباً آخر لآدمية الضحية بسحب صفة الضحية منها، وبمنازعة القاتل الضحية بمطالبة المجتمع باعتباره ضحية استعادت حقها من الذي اعتدى عليها وآذاها.

هذا العنف الذي تغنى به حفني أحمد حسن في الخمسينات وبثته السلطة عبر أثير إذاعتها لم يؤسس فقط لشرعية جرائم العائلة، بل أسس لخصوصية العنف المُفَعل في هذه الجرائم، اذ يكفينا أن نلقي نظرةًً سريعة على تقارير الطب الشرعي لضحايا هذه الجرائم من النساء في أي بلد عربي، لنرى الفرق الواضح بين جرائم الشرف وباقي أنواع جرائم العنف والقتل! فجرائم الشرف أو جرائم العنف الأسري تمتاز بدموية خاصة تظهر معالمها على جسد الضحايا من النساء وكأن القصد لم يكن القتل فحسب بل التشويه، والإعطاب والإعاقة للجسد ولشكل الضحية، فغالباً ما درجت العادة الإجرامية أن يكون القتل في هذه الجرائم محتوياً على بعد مسرحي بدمويته لا يضاهيه بذلك سوى الجرائم التي تقترف على خلفية سياسية أو أمنية تقترفها الدولة بحقّ معارضيها، فكأن القتل وحده لا يكفي لإثبات موقف القاتل من المرأة التي وقعت ضحيةً لمثل هذه الجرائم بل لتثبيتها الرمزي والعلني في الأذهان. ولكي نفهم مدى تغلغل هذه الصورة التي سوقها حفني أحمد حسن داخل عقلية المجتمع يكفي المرء أن يتفطن أن هذه الجرائم بعنفها الشديد وبشاعتها لا ترتكب عادةً من قبل أشخاص لهم سوابق إجرامية أو ماض دموي، فأغلبية هؤلاء لم يقتلوا أحداً من قبل ولو يتورطوا بجرائم جنائية من قبل، الا انّهم قادرون على إظهار عنف شديد، وجسارة في التعسف والدموية يقف أمامها المرء مذهولاً، لأن ذات الشخص لم يكن باستطاعته أن ينفذ مثل هذا المشهد الدموي بحق ضحايا آخرين على خلفياتٍ أخرى، الفرق هو أن هذا الأسلوب وطريقة القتل هذه للمرأة بما يختص جرائم الشرف تنبع من أربعة أسباب أساسية:

السبب الأول، أن المستهدف بالدرجة الأولى هو جسد المرأة كجسد؛

ثانياً، أن الأشخاص المرتكبين لهذه الجريمة كالآباء والأخوة والأعمام يستطيعون فعل مثل هذا الجرم ضد امرأة تابعة للعائلة كونهم لا يرونها إنسانا مستقلا بحد ذاته بل هي تابعه لهم، فهي امتداد لشخصهم ولرغباتهم! لذلك يكون العنف الموجه تجاههن أشد لأن مقترفه لا ينظر إلى هذا العنف على أنه عنف موجه ضد من هو مساوي لهم في آدميته؛

التفسير الثالث، هو أن لمثل هذه الأغنية كان “الفضل الكبير!” في “تسويق وتثقيف!” المجتمع على مثل هذا العنف، وعلى الدموية التي يجب أن تُمَيز مثل هذه الجرائم. لذلك نرى أن الأشخاص الذين لم يكونوا يمارسون أو يعرفون العنف في حياتهم قادرون على إعادة إنتاج هذا العنف الدموي مراراً وتكراراً.

السبب الرابع، سنراه فيما يحصل بعد القتل أي في تعامل السلطة مع جرائم الشرف الذي له الأثر الكبير في تغلغل هذا العنف كظاهرة واضحة المعالم في مجتمعنا:

“لاقى الحكومة تحت البيت
يقلولو: انزل وتعالَ
قال: انتو حكومة البر طاب ليكم!
وأنا من فوق ما أطب ليكم
الله الي جاني طبليكم

على ما بلغنا في الحادث”

بعد قتل متولي لشفيقة، خرج إلى الحيز العام ليصيح في المارة أنه أخذ بثأره مطالباً المارة والجمهور الذين هم رمز للمجتمع أن “توسع له السكة”، إذ أنه يطالب باحترام المجتمع له وبإعلانه الرضا عن فعلته هذه. الإعلان الذي كان متوقعا أن يحصل عليه، لكن ليس هذا هو التأييد محك الامتحان الذي نحن ومتولي بصدده! فمحك الامتحان الحقيقي هو موقف الحكومة أو الثورة من عمل متولي: هل ستستمر هذه بتأييدها لمتولي ولجريمته؟ أم أنها ستقف موقف المغترب عن المجتمع؟ وبما أننا نتحدث عن سلطة لا تريد بماهيتها أن تأخذ الشرعية عبر صناديق الاقتراع إنما بصفقات المبادلة وإعلان البيعة والمعاهدة، فإن شرعيتها مبنية على تسويق ذاتها على أساس أنها منبثقة من المجتمع وتمثله كحقيقة بديهية لا لزوم لإثباتها ووضعها في امتحان صناديق الاقتراع التي قد تؤدي إلى تَبَدُل السلطة وزعزعتها، فما تبقى للسلطة إذاً لكي تُثَبِتَ شَرعِيَتها هو ضخّ هذه الثقافة السياسية والاجتماعية التي تسوّق لفكرة الولاء وتَناظُر السلطة والشعب على أساس أنهما انعكاس وتماثل أحدهما للآخر. السؤال الذي فرضه متولي هو: ما هو موقف السلطة “الحكومة” من شخص متولي الذي يمثل عند حفني أحمد الصعيد والفئات الشعبية من المجتمع المصري والعرب بمعتقداتهم وقيمهم؟ ومن الناحية الثانية ما هي الحدود التي ترسمها أو تتيحها السلطة للعنف الموجه من قبل المواطنين؟ هذا لأن المشهد الدموي الذي قام به متولي كان قد اغتصب من السلطة أهم مقوماتها وماهياتها كسلطة، وهو الحق باحتكار وتفعيل العنف كأداة اجتماعية وسياسية، لذلك متولي يعرض على السلطة الصفقة التالية : جيئوا بطبل ومزمار كي أحتفل بفعلتي، عندها أنزل لكم وأسلمكم نفسي.

معنى هذا انه يطالب السلطة بالتفهم، بل بالانحياز لفعلته مقابل اعترافه السلميّ بشرعيتها واحتكارها للعنف، وببيعة الصعيد وولائه لسلطتها. المفارقة هنا هي أن هذا هو المكان الوحيد في الأغنية الذي يتنصل فيه حفني احمد حسن مما قاله متولي ومن شهادته المباشرة لأحداث الرواية بقوله: “على ما بلغنا بالحادث”، وهو الذي قبل سطور قليلة قد ظهر لنا كأنه كان شاهداً على الحادثة بل وكأنه هو نفسه متولي، هدفه في هذا التنصل هو أنه يريد أن يجعل مسافة بينه وبين متولي الذي يبتزّ الحكومة ويضع لها شروطا. المفارقة هي أن هذا الحادث كان قد حصل كما ذكرنا قبل الثورة بكثير وهو محسوب على حكومة أو سلطة كانت تمثل النقيض للحكومة التي تمخضت عن الثورة، ومع هذا فان حفني أحمد حسن غير مرتاح أو متوجس من زعزعة صورة الحكومة، حتى وان كانت تلك التي قام على أنقاضها النظام الحالي، سببه في هذا أنه يدافع عن السلطة كسلطة أو كفكرة تحتم واجب الطاعة، الخضوع والانضباط، هذه الفكرة هي أكثر الأفكار التي عملت السلطة على بتسويقها وهي تتلخص بواجب إطاعة وليّ الأمر مهما كان، فليس كون السلطة وطنية أو اشتراكية هو في نهاية المطاف ما يدعو حفني أحمد إلى الدفاع عنها ومدحها، بل كونها سلطة قادرة على المكافئة والمعاقبة، الإعطاء والمنع، التكريم والتجريم، بالتالي فتصوير السلطة على أنها قد تخضع للشرط الذي يمليه عليها متولي هو شيء خطير يتوجب على حفني أحمد حسن الفصل بين ذكره، من باب سرد الواقعة التاريخية لمتولي، وبين التغني بالواقعة لما تحمله من أفكار فيها زعزعة لفكرة السلطة وهيبتها.

“هاودوه وجابولو الطبل ونزل
بعد ما تَلَف المنزل
شال العار وكلام العزل”

وخضعت السلطة وأعلنت الرضا عن فعلة وقيم متولي الذي اعترف بشرعيتها سلطتها على الحيز العام المتمثل بالبر، لكنه طلب من السلطة أن تعترف له بقيمه وبسلطته الذكورية داخل البيت وبعالم القيم الذي يطبق بالحيز الخاص، لكنه يُشهر ويُقَنَن في الحيز العام بالتطبيل والتزمير وإشهار القتل والمفاخرة فيه. بمعنى آخر- متولي يعلن أنه لا زحام مع السلطة في السياسة والحكم، وبالمقابل فعلى السلطة واجب احترام ما يراه حفني أحمد حسن ومتولي تقاليد راسخة وثوابت لا تقدر حتى السلطة الشرعية والثورية على تبديلها. في هذه اللحظة نفهم جلياً وبشكل مباشر معالم الصفقة التي تحدث عنها حفني أحمد حسن بشكل غير مباشر عبر ربط شخص متولي بالجيش والحكومة، والآن هو يكشف أمامنا مسببات هذا التناغم، فلا يكفي أن تكون السلطة وطنية أو معنية بالعدالة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، بل يتوجب عليها ضمان استمرارية المجتمع الذكوري الذي يُسَوَق ههنا على أنه أهم عوامل هذه الصفقة، بل أهمها على الإطلاق. الاعتراف بما وراء سلطة “البر”، الاعتراف بسلطة الـ”شرف” ومنظومتها كما تتصوره السلطة ويتصوره حفني أحمد حسن، وكما هو الحال في كل مساومة سياسية. ولا توجد كما نكتشف عند السلطة أي مشكلة في “مهاودة” متولي في جريمة القتل وابتزازه لها، هي لم تكن مستعدة بمهاودته بأن يخرج من الجيش دون إذن، أو بمهاودة الجندي الذي كان يمشي في “البلوك بكيفه”، لكنها مستعدة أن تهاود وأن تتسامح في قتل النساء وفي الانتقاص من حقوقهم الآدمية والمدنية، وهي بذلك أعلنت عن طرد المرأة المصرية والعربية التي كانت عماد الثورة، خارج معادلات التحرر، الكرامة والعدالة الاجتماعية التي ناشدت إليها الثورة وقامت من أجلها. حتى أنها ناقضت ما كانت قد سعت إليه من محاولات لتقديم نماذج متقدمة في كل ما يختص بمساواة المرأة بكل ما يتعلق بالعمل، التعليم وقوانين الأحوال الشخصية فها نحن نراها تقوض كل مساعيها وكل ما حاولت تحقيقه للمرأة العربية في حقبة ثورة الضباط الأحرار، هذا لأنها فشلت في ضمان أهم عامل من عوامل ومقومات المساواة، وهو عامل الآدمية والمواطنة، و ضمان حرية وسلامة جسد المرأة وسيادتها عليه. هذه الصفقة التي تعقدها الحكومة مع الصعيد المصري هي اعتراف لهم بالشرف كبديل لاعترافها لهم بحقهم بالمشاركة السياسية التي قد تسلب من السلطة شرعيتها، وهو اعتراف لهم بحقهم بتفعيل العنف والحد من الحرية السياسية والفردية وحتى الحياة، مقابل الحفاظ على العنف الممنهج في المجتمع الذكري.

يلقى متولي استجابة من الحكومة “المُهاوِدة” التي تأتي له بالطبل والمزمار إلا أنه مع ذلك لا ينزل أو “يَطُب لحكومة البر” قبل أن “يتلف المنزل”. هذا الإتلاف هو بمثابة عنف رمزي ضد ملكية شفيقة أو ما حسبه متولي أنه ملكيتها وجزء من شخصها وجسدها (فالملكية المادية هي امتداد للجسد وللآدمية) وقد كان مهماً أن يقول حفني أحمد حسن، أن متولي قد أتلف المنزل بعد المهاودة أي بعد عقد الصفقة بينه وبين الحكومة، كأنه يريد أن يؤكد لنا على موافقة السلطة التام لعمله، فهي بسماحها له بإتلاف المنزل بعد المهاودة، تصادق على الفعل حين حصوله على عكس مصادقتها بأثر رجعي لقتل متولي لشفيقة الذي كان قد اقترفه متولي بدون مصادقة أو إذن مسبق من الحكومة. السماح لمثل هذا العمل بالحصول هو موافقة بل شراكة أكبر في الجريمة من مجرد المشاركة أو الموافقة النابعة من المصادقة بأثر رجعي على الفعل.

بعد أن أخذ الإذن والتفهم والمراعاة لفعلته، يمكن لمتولي أن يستمر بعنفه الذي أصبح بمثابة قانون دولة أو قانون عام، وكأن حفني أحمد حسن يقول أن إتلاف المنزل هو عمل تقوم به السلطة ذاتها أو على الأقل يقوم به وكيل عنها. ثم أن حفني أحمد حسن يريد أن يشرح لنا ما هي تجليات الاعتراف بجرائم الشرف وبمنظومة السلطة الذكورية، أي ما هي تجليات الإقرار السلطوي بحق الرجل على جسد المرأة. فهذه التجليات تظهر على شاكلة حقوق وامتيازات أخرى يتمتع بها الرجل على المرأة، مثل حقه في إتلاف ملكيتها والتحكم بها وحقه العام في تحديد هامش الحرية التي يريد إعطاءها للمرأة، لأن حقه هذا هو ناتج عن حقه في سلب الحياة وإعطاب الجسد. الإقرار بالشرف هو الإقرار بالسيادة المطلقة للرجل على المرأة والإقرار انه هو منبع السيادة والسلطة، وأنها امتداد لشخصه وجسده ورغبته تماماً كتبعية المتاع والملكية المادية التي تعدّ امتداداً لشخص المرء، حريته وآدميته التي ليس لأحد سلطان عليها كونها تقع في حيز الفصل بين المجالين الخاص والعام. وعليه فإنّ المعنى العميق لجرائم الشرف وتجلياتها هو تأسيس لنظام حكم مبني على العنصرية والطبقية الموجهة ضد النساء كفئة داخل الدولة.

هذا طبعاً الفرز القانوني والسياسي الذي أفرزته مهاودة السلطة لمتولي، لكن حفني أحمد حسن يريد تسويق فكرة الشرف أيضاً للعامة، فمن ناحية هو يقول إن هذه قيم وثوابت راسخة وبديهية في المجتمع، ومن ناحية أخرى يريد أن يفسر للجمهور الذي يخاطب باسمه، ما هي هذه القيم، وما هي الفائدة المرجوة من وراء الحفاظ عليها والسعي لتطبيقها ومعاقبة من يحاول المساس بها، كما فعل كل من متولي والسلطة. الفائدة التي يراها حفني أحمد حسن من فعلة متولي هي أنه “شال العار وكلام العزال” بمعنى ان فائدة جريمة الشرف هي لا لشيء إلا للتخلص من الضغط الاجتماعي الحقيقي أو المتخيل الذي يراه المؤلف أو يسوّق لوجوده. فالقَتل هو محاولة لدرء المرء من إرهاصات “ثقافة العيب”، وكأن حفني أحمد حسن يحاول أن يسوق هذه القيم بواسطة تعميم “ثقافة الخوف” من عدم القبول الاجتماعي متناسياً أن “الفائدة” الوحيدة الحقيقية لمثل هذا الفعل هو تثبيت النظام ألذكوري والنظرة الدونية للمرأة، لكنه لا يقول هذا صراحةً، بل يحاول الالتفاف عن هذا التفسير أو التحليل الواضح لمسببات هذا الفعل بترويج ثقافة العيب المنوطة بثقافة الخوف. هذا ما يعزونا أيضاً للاعتقاد أن حفني أحمد حسن غير مقتنع بقبول الجمهور لأهداف جرائم الشرف الحقيقية، في فترة زمنية كان غالباً فيه خطاب التحرر والثورة على العادات والتقاليد البائدة وعن تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والتمكين الاقتصادي والاجتماعي للفئات المجتمعية المهمشة من ضمنها النساء. فنرى أن حفني أحمد حسن لم يكتف بالقول بأن – تثبيت جرائم الشرف هو تثبيت لقوامة الرجل المطلقة على المرأة، بل حاول تخطي هذا باستغلاله للخوف المترسخ في “ثقافة العيب” لكي يبرر لنا العمل بكل معانيه وأبعاده الاجتماعية.

“بسرعة حددولو جلستو نده القاضي
وقف قدامو قالو: بتموت شفيقة ليه يا متولي؟
قالو يا بيه أنا دمي فار! زى العَمَال
ومَع الإسود عَمل الفار عَمل،
وِحِدانا شجرة وفيها فَرع مال،
مفيش غيري لا عم ولا خال لي!
اشرب المرار ده والخل ليه؟
اقطعو يا بيه ولا اخليه؟”

وبدأت المحكمة رغم أن موقف الحكومة أصبح واضحاً من فعلة متولي، والسؤال لماذا نحتاج للمحكمة؟ الجواب هو أنه بما أننا نتحدث على محاولة لنزع الاعتراف بشرعية السلطة فلا يمكن أن يمرّ هذا الفعل دون مساءلة، هذا لا يعني أن السلطة تشكك في القيم الأخلاقية، إنما هي تقول للمستمع إن هذه القيم يجب أن تتم المصادقة عليها بشكل مؤسساتي لأن الدولة هي مؤسسة وليست فرداً، وعليه يجب صبغ العمل بالصبغة القانونية أو الشرعية فَتَوَجَبَ مَأسَسَتُه! ومأسسته هذه تتمّ إما بالقانون أو بتفعيل القانون كما حصل مع الشرطة أو تكون بتفسيره والبت فيه كما سيحدث الآن في المحكمة التي ستنظر مجدداً في عمل متولي. ثم أنها فرصه ليثبت حفني أحمد ما يراه متولي كحق وما تراه السلطة كقانون، هذا التماهي حول جريمة الشرف، يقرب المسافة بين القانون والحق الطبيعي، يصبح من خلالها قانون الدولة حقا طبيعيا وفطريا يتماهى مع أخلاقيات المجتمع، عاداته وتقاليده التي يراها راسخة وبديهية. هي اذاً وسيلة لجعل قوانين وقرارات الدولة بجميع أذرعها خارج نطاق المسائلة والمحاججة والمناكفة القانونية والأخلاقية، فهي تعبر بهذا التمازج عن ذلك الحق الطبيعي الفطري، لا عن قانون دولة يكون فيما يكون، حصيلة عدة اعتبارات، وان لم تخل من الاعتبارات الأخلاقية فهي مليئة أيضاً بالاعتبارات السياسية والمصالح العامة والضيقة للفئات التي لها القدرة على التأثير في عملية التقنين بشكلها التشريعي والقضائي.

تنادي المحكمة متولي، وتسأله عن مبررات جريمته، فلا جدال بأنه القاتل. مما يبقي للمحكمة السؤال فقط عن المركب المعنوي لجريمته. الجميل هنا هو الرمزية المتمثلة باختيار حفني أحمد حسن لصيغة المضارع لسؤال القاضي فهو لا يسأل متولي: “مَوِتِ شفيقة ليه؟” بل هو يسأله “بِتمَوِت شفيقة ليه؟” وكأن عملية القتل ما زالت مستمرة لشفيقة والحقيقة أن حفني أحمد لم يخطئ البتة! فعملية القتل لم تنته بعد! هي مستمرة في المحكمة! فمتولي وإن قتل جسد شفيقة لم يقتل شخصها وآدميتها وصفتها المعنوية كضحية، وبهذا فهو يريد الاستمرار مع السلطة بعملية الإماتة التي لم تنته بعد.

وها هو متولي يستمر رأساً في عملية الإماتة بواسطة إعطاء القاضي التبريرات التي تُحَقِر من شفيقة وتُبَجِل من مكانته. فهو يصف ثورة غضبه كثورة الدم عند الثور القوي والأصيل على هذه الفعلة القبيحة التي يصفها كأنها تشبه بعمل الفأر (شفيقة) القبيح والجبان مع الأسد(متولي أو الكرامة الذكورية) الذي ما كان منه إلا أن يسحق الفأر من أجل أن يحافظ على كرامته. ثم يستمر متولي ويصف شفيقة بجذع لشجرة المائل الذي يهدد الشجرة كلها، ويصف القتل “بقطع الجذع” وكأنه يصف مشهداً برمزية خالية من الدموية ومن أي اعتبار إنساني أو آدمي لشفيقة، هذه الرمزية تَسلُب حتى المجتمع أو الأفراد فيه من صفته الإنسانية فهم بنظر متولي جزء من، أو جذوع داخل الشجرة التي هي العائلة أو البلد أو المنطقة أو المجتمع أو الدولة. ومعنى هذا أنه يضع الجميع تحت كنف القاسم المشترك أو كنف السلطة التي تلغي إنسانيتهم وفردانيتهم للصالح الأسمى، وهي نظرة تتماشى مع رؤية السلطة لنفسها! اذ أنها ترى مصر لا المصريين، والعروبة لا العرب، والعائلة لا الأفراد.. وبالتالي فشفيقة هي مجرد جذع، والقتل هو مجرد قطع لجذع، فالجذوع لا تدمى حتى ولو كانت نساء ممزقة الأشلاء والأوصال!

يستمر متولي بوصفه نفسه على أنه كان الضحية التي كانت مجبرة على ارتكاب جرمها، فهو لا يريد أن يشرب لوحده “الخل والمر” الذي جلبته شفيقة لعائلته وللعادات والتقاليد، هو الذكر الوحيد بلا أعمام أو أخوال يقومون بغسل العار مكانه، لأن لهؤلاء مكانة أبوية، والأب بالمجتمع الذكوري يستطيع أن يعاقب ويثأر، لكن لا أعمام لمتولي ولا أخوال! ووالده وإن كان حياً فقد عجز وقصرت عصاه، أو قل قصرت سكينه على أن تطال جسد شفيقة، فلم يبق من حلقات الآخذين بالثأر إلا متولي. المفهوم الآخر لسؤال متولي الاستنكاري الذي فيه من تظلم الضحية، هو انه ليس هنالك من يتقاسم معه العار كونه الذكر الوحيد القادر على غسله، لذلك تقع كُلفة الأخذ بالثأر على كاهله، فإن قام بواجبه نال الاستحسان، وإذا تقاعس ناله كل الذم والتقبيح الذي سيوجه إليه، لذلك يسأل متولي القاضي متظلما:ً هل من العدل أن أطالب بشرب كأس العلقم هذه لوحدي وأستمر في كوني ضحية لكي أحافظ على “ميلان” هذا الجذع الذي يهدد مجمل الشجرة!؟ وهو بهذا يسأل القاضي: هل ابقي على الفرع أو الشجرة أم اقطع الجذع المائل؟

متولي إذاً يصور نفسه على انه ضحية، طارداً بذلك الضحية المذبوحة شفيقة، ليس فقط كضحية أخلاقية بل وكضحية قانونية، فهو يسلبها آدميتها جاعلاً منها مجرد جذع شجرةٍ لا إنسانية لها لنطالب بها معاقبة متولي على قتلها.

“كان القاضي اسمو حسن
راجل عندو فضل وإحسان
قالو: صراحة قطعو أحسن!”

قبل أن يسرد لنا حفني أحمد حسن حكم القاضي لما سمعه، وجوابه على سؤال متولي وتظلمه، يذكر حفني أحمد للمستمع أن القاضي الذي سمع قضية متولي “كان اسمه حسن، رجل عنده فضل وإحسان” وهدفه بهذا هو:

اولاً، أن يقول أن القاضي كان مصرياً يشارك متولي وحفني أحمد حسن ذات القيم والمعايير الأخلاقية؛

ثانياً، أنه حتى وإن كان قاضياً في فترة الاستعمار، فإنه قاض مصري أصيل يتبع من الناحية المعنوية للنظام الحالي وللثورة، وليس لنظام ما قبل الثورة، حتى وإن كان معيناً من قبله، فهو قاض مصري وطني ونظام الثورة هو نظام مصري وطني صرف، لذلك أتى حكمه على متولي استمرارا، بل قل نتيجة للنظام الذي أفرزته الثورة (وإن لم تكن معقولة من الناحية الزمنية لكنها بنظر حفني أحمد حسن نتيجة حتمية من الناحية الفكرية للثورة وثوابتها)؛

ثالثاً، ذكر قومية القاضي عبر اسمه تلعب هنا دوراً هاماً في الترتيب الهرمي الذي يُسَوَق له هنا داخل السلطة، فحفني أحمد حسن لم يهتم باسم أو بقومية الكومندان بالجيش، فالجيش هو مصدر الشرعية وهو ليس محلاً للشك والسؤال، وله هوية وطنية وقومية واضحة وثابتة من ناحية استمراريتها. وهنالك واجب إطاعتها في كل حين. أما القضاة أو المحكمة ففيها من هو وطني وفيها من هو غير وطني، فلو كان القاضي شخصا آخر اسمه ليس “حسن” بل اسم آخر دلّ على انه تابع للغرب، أو من الأقليات التي قد ينظر إليها الناس بعين الريبة والعنصرية، كان من الممكن أن تكون النتيجة معاكسة لقيم الثورة والصعيد، فولاء المحكمة في تلك الفترة هو بحسب شخص القاضي. أما الآن وقد أفرزت الثورة قضاة وطنيين بامتياز فقد انعدم هذا الخوف، ولكن مع هذا، فإن تاريخ هذه المؤسسة يضعها في مرتبة أقل من مرتبة الجيش، فهي مؤسسة تابعة للجيش وليست فوقه، هذا لأن الجيش كان ومازال متماهياً مع قيم الثورة والسلطة. هذه القيم هي قيم ثابتة في هذه المؤسسة لم تتغير عبر الحقب، ولذلك فالجيش كمؤسسة أهم من المحكمة ومن أي مؤسسة أخرى أو أي ورمز آخر من رموز السلطة، كونها خارج مجال الشبهة والمسائلة والشك، فهي الممثل التام لماهية القومية العربية والمصرية ولماهية السيادة في الدولة.

لا يعطي القاضي حسن في جوابه لسؤال متولي المذبوح مجالاً للشك، ويتبع جوابه تقييماً وتفسيراً لعمل متولي، فهو يجيب على سؤال وتظلم متولي بذات المفردات التي تلغي إنسانية شفيقة، يتبنى بذلك نظرة متولي لشفيقة على أنها “شيء أو مادة” كجذع الشجرة، فهو حتى لا يتكلم عن جذع الشجرة بل يصفها بضمير الغائب بقوله “قطعه أحسن” أي قطع الجذع المائل أفضل من أن يكون متولي ضحية العار ويشرب كأس المر والخل لوحده. بهذا الجواب يقنن القاضي عملياً القيم، العادات، التقاليد واللغة أو الأدبيات التي طرحها متولي، بالقول والعمل. تماماً كما تفهمتها الحكومة بالمهاودة وجلب الطبل والمزمار، اذ أن القاضي تناغم من على جثة شفيقة التي اختفت ولم يعد يذكر اسمها البتة مع متولي وما يمثله، وبهذا تحول الحكم في رمزيتها الأخلاقية، اللغوية والأدبية من حكم على حالة خاصة لحكم عام ولقانون عام تخضع له كل النساء كفئة مجتمعية.

“اصل انته شريف وعملك شئ يعليك
ابدا مفي شيئ عليك
غير ست تشهور أشاعه ليك.
وخدهم سجنو رد للجيش”

وينهي القاضي جوابه وتقنينه للقانون الذي سنه بتقييم أخلاقي للقانون عبر تقيم لمتولي ورد اعتباره، فمتولي الآن بحكم القاضي هو “شريف” وعمله يزيده شرفاً ومرتبة، وحتى علاج حفني أحمد حسن للحكم القاضي تبدأ بقول القاضي إنه “أبداً ما في شيء عليك غير ست شهور”، وكأنه يبرأه أولاً ثم يعاقبه بالستة شهور سجن، وكان من المفروض أن يدينه بالجريمة ومن ثمة يعطيه الحكم المخفف، إلا أن حفني أحمد حسن أراد أن يقول أن القاضي لم يدنه لأن في الإدانة انتقاصا من عمل متولي. لكن لو نظرنا للموضوع دون نفاق أو مجاملة للواقع تماماً كما يراه حفني أحمد حسن، فإن إدانة متولي والحكم عليه ستة شهور على جريمة قتل هي من الناحية الفعلية والأخلاقية تبرئة لمتولي على جريمته، لأنه عندما لا يلائم القصاص الفعل بهذا الشكل الفاضح، فإن هذا القرار مثله مثل التبرئة، فهو لا يعطي ولا يرد للضحية والمجتمع حقّه، ولا يحاسب فعلاً الفاعل على ما فعل، بل هو يثبت دونية الضحية وعدم مساواة حقها في الحياة بحقّ الرجل. وبهذا فإن حفني أحمد حسن يفهم النفاق الموجود “بقوانين الشرف”، تلك القوانين الموجودة في الكثير من قوانيننا الجنائية في العالم العربي، والتي تدين القتل لا لشيء إلا لكي تطلق سراح القاتل بعد هذه الإدانة. فهي بهذا تتفهم المجرم وتحميه. وعليه فإن هذه السياسة القضائية هي أقرب للتبرئة منها للإدانة، وفيها حفاظ وتشجيع على استمرار الممارسة وتجذّرها كعمل مشروع و”شريف” داخل المجتمع، أكثر من محاولة مكافحتها والتصدي لها.

وينتهي الحكم على متولّي بردّه للجيش، ذلك الحضن الوطني الذي رعاه منذ البداية وكان سبباً في ارتقائه الاجتماعي دون أن يجعله يساوم على القيم التي رسمتها له السلطة على أساس أنها ثوابت لا جدال فيها وفي الحاجة لرعايتها

“بعد ما كان دمعو يبل إيدو
قالو دا اللي شغل البال إدوه
صراحة شرف بلدو”

وهكذا يرعى الجيش وترعى السلطة متولي الذي كانت دموعه تبلّل يديه من شدة ظلم أخته وإهانتها له ولقيمه، لكن الآن وبعد أن غسل عاره توجّب على الجيش والمجتمع وبحسب حفني أحمد حسن، إفساح السكة له وتكريمه في الجيش وخارجه لأنه بصراحة شرف الصعيد وبلده جرجا، بل قل مصر والعروبة كلها، فهو رمز قوميّ يفتخر به وننشد فعلته على أشلاء أخته شفيقة التي لا صوت ولا حجّة لها، فالموتى والضحايا كما الجذوع خرساء لا تتكلم قبل القطع أو بعده.

لكي لا نظلم حفني أحمد حسن، يتوجب علينا أن نقول إنه كتب أغنية أخرى عن هذه الحادثة تحت عنوان “نظلم شفيقة ليه” كان قد حاول فيها تفهم شفيقة وإعطاءها صفة إنسانية وآدمية، لكنه لم يجرّم الفعل بل حاول إظهار شفيقة كضحية لامرأة أخرى هي زوجة أبيها التي أدت إلى طردها من البيت، وكانت السبب الأول والرئيسي الذي أدى بها إلى هذه النتيجة الحتمية. وبهذا فإن حفني أحمد يتفهم الفعل رغم أنّه يرى بشفيقة كضحية وهو بذلك لا يرتقي للعنوان الذي أعطاه لأغنيته هذه.

لم تلق هذه الأغنية تجاوباً كبيراً، وكانت قد اندثرت مع العديد من أعماله الأخرى لنبقى مع “متولي وشفيقة” الأصلية، وليس عجباً أن لا تلقي الأغنية الثانية ذات الرواج الذي لاقته الأغنية الأولى، والسبب في ذلك أن السلطة لم تر فيها أي منفعة سياسية، فالأغنية الأولى هي مثال رائع على تسييس الفن بشكل جمالي دون أن يحسّ المتلقي بأنه يخضع لعملية تجنيد فجّة أو تلقين مباشر، فقد امتازت هذه الأغنية بذكاء سياسي وجمالي استطاع أن يمزج الدعاية السياسية بقصة يومية نقرؤها في صحفنا اليومية في العالم العربي، غير منتبهين أن جرائم ما يسمّى بالشرف ليست أحداثا فردية لا صلة للواحدة بالأخرى، بل هي نتاج فكر وسياسة وأدبيات وجماليات تمّت رعايتها والترويج لها في كل منحى من مناحي الحياة لكي نضمن قبوع المرأة العربية خارج العقد الاجتماعي، وخارج المواطنة والآدمية والحيز العام والذي هو مدخل السياسة وبوابتها الرئيسة.

لقد فهم حفني أحمد حسن بسليقته أنه يشارك بعملية القتل هذه كما أنه فهم مشاركة السلطة والثورة لهذه العملية حين تبنت وبثت هذه الأغنية عبر أثير اذاعتها لتصبح إرثاً ثقافياً وجمالياً نتفهمه ونتبعه، وسكيناً خطابية، لغوية، ثقافية وجمالية، نضمن بها خوف المرأة وخضوعها الدائم. لهذا كتب حفني أحمد حسن في بداية قصيدته بيتاً يصف فيه ماهية قصيدته هذه، فالشعر الذي يغنيه حفني أحمد حسن هو:

“كلام يشبه سلاح ماضي
من مؤلف على الورق ماضي”

لقد فهم حفني أحمد حسن أن كلامه هذا هو بمثابة سلاح يهدد به المجتمع نساءه، وتهدد به السلطة شعبها. فتقايض النساء المجتمع بالخنوع والقبوع في الحيز الخاص. مغيبات عن السياسة والمواطنة والمحاصصة، ويقايض المجتمع السلطة فتتيح لهم مجتمعاً ذكورياً وتعطيهم أن يكونوا أشباه أسياد على الحيز الخاص مقابل أن يكونوا تابعين ذوي مواطنة منقوصة، مغيبين عن المشاركة السياسية وعن أي فعل عام هو خارج أطر رضا السلطة وقبولها له. فعندما طردت الثورة النساء كانت قد طردت في ما طردت روحها، عنفوانها وآدميتها وكل قيمها الحقيقة التي قامت من أجلها.

لم يبق لنا اليوم بعد مرور عشرات السنين على الحدث إلا أن نترحم على شفيقة وعلى جسدها الممزق الذي ما زال “ُيمَوَت”، آملين في أن تنشئ الثورة الجديدة في عالمنا العربي نظاماً يعيد لنا المرأة كمواطن وكسيد على واقعه الخاص والعام، ويفرز عن مجتمع وعن نظام يقوم بالاعتذار والإقرار بأننا كمجتمع وكثقافة ظلمنا شفيقة وظلمنا نساءنا فترةً طويلةً من الزمن، حان لها أن تنتهي، هذا إن أردنا فعلاً أن نكون أسياداً وأحرارا وإن أردنا حقاً عودة الروح لشعوبنا.

 

شفيقة ومتولي

يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
جاي تايه أدور على ميت ولي
وشعوري للعيل متولي
واديني هتكلم على متولي
كلام يشبه سلاح ماضي
من مؤلف على الورق ماضي
ودي حادثة في العهد الماضي
متولي يقول مبيديش
والوحدة عالية متعديش
جالو الطلب وخدوه الجيش

متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
متولي عجب عسكري وآخر النهار
خدوه عل البولك(1)
يا ما على البولك قابلوا وأتوا عالم
شوف الفرد لما يأتي عَلَم
وخد ست تشهور يِتعَلَم

متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
يابو زينة عندك فِ ضرب النار
وشبيبك فى الدار بالنار
دا خد شريطة فِ ضرب النار
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
ناس على رجوليته شريطين
وكان فى بلدو شاري طين
واترقى وعلق شريطين(2)
أصل الراجل الخالي مبيتشويش
وفى الطوارق باش جاويش
غيتو بالغ باش جاويش(3)

متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
متولي بالغ باش جاويش
وجاتو قرطه من منجابات
تبع اسيوط
فى القرطه عسكري ماشي بكيفو
بالمال اهلو بيكفوه متولي ضربو بكفو
قالو إزاي بتضربنى يا جبان
روح ادفن نفسك جوه جبانة
أدى صورت أختك جوه جيبي أنا
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
متولي لما شاف الصورة
بقى ذليل ونفسو مكسورة
وقام سريع راح للكومندان
يقول: أنا مش باخد العذر والجازة؟
انا لو عملت غلط أتجازى؟
أمانه يا بيه إديني أجازة!
الدنيا دي غرورة لما تولى
لو كان على قطب وميت ولي
قالو مالك بيها يا متولي؟
قالو يا بيه أبويا في خطر
متولي كان وجيه والصورة حلوة
اللي عليه بيوصى راحلو
بأسبوع مضالو وسرحلو!
طلع تايه يقول جرحي صعيدي
ومليانه أفكاري السعادي
ركب في القطر الصعيدي

متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
ركب في القطر الصعيدي
والساعة أربع وصل بلدو
له عائلة كريمة يقدمو علبتهم
ومربطلهم عل بيتهم
رَوَح وخَبَط على بيتهم
ويقول دا أنا جسمي استوى واتبرى
كمان اتهموني وغيري اتبرى
أبوه يقول: مين أتى بره؟
قالو: افتح يابا دا أنا متولي!
فتحلو الباب يقولو سَلامات
عظامي على بعض سَلَمَت
ليه تركني وتنسى اللَمات يا متولي؟
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
قالو: يابا مش عايز سَلامات عايز اعرف
فين أختي شفيقة؟
قالو: بعدك من تاني ليليه يا بني
أختك صبحت عليلة وماتت والدوام لله
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
قالو شفيقة أختك ماتِت
قال: يابا بنتك لو انته ربتها
مترفتش وتاخدت التار بدها
طيب قوم ورينى تربتها
قال: يا ابني أختك من يومك مشت
وسابتني ولا إختشت
وأبوك عجز وعقلو شت
يا متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
طلع متولي من البيت زَعلان
طلع تايه من المنزل، ويقول العقل مني زل
قطع ورقة لأسيوط ونزل

متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
فى أسيوط قابلوه تَلَت أصحابو
قالولو: رايح فين يا متولي؟
قال: إسأل لي لما يروق بالي أديكم
هتبكو والدمع يبل أيدكم
وأزور سيدي جلال(4) في بلاديكم
زَوَروه سيدى جلال
ونَزَل على الحِته بيهم، يقول دا عمي ودا خالي

يقول دا عم ودا خَل
دا جانا اللي نسى الود خال، على قهوة العطيني ودخل

متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
وقال يا معلم هات كراسي وطلب طلبات لصحابو
وهوه مَرَضاش يشرب
جه الجرسون يقول: وحش ف جبلك!
وياك الكلام يجيبو لك!
انته تشرب إيه أجيبو لك؟
قالو: هاتلي شاي الغُلبِ مر
سمعو المعلم ورحلو

المعلم راح لمتولي
قالو: يا أخينا داير بكى مالك؟ ما كنت قاعد بكمالك
ياك خدو من البك5 مالك؟
قالو يا ريت راح مالي!
قالو يا ريت راح مالى، انا الموت بقى سترى ورحمالي
وزماني عكسني وراح مالي
علشان وحدة اسمها شفيقة
قالو: أنت مؤمن تقي رب ليك؟
لو في الجواب ده تقرا قبليك
“اهو ده كلام صاحب المطرح”
قالو: مؤمن تقي رب لك؟
لو فى الجواب دة تقرا بلاك
انتا زبُنها ولا تقربلك؟
قالو: أنا راجل ريس كلَ مأتين
والحب بهدل كل متين
عايز أقابلها فِ كلمتين
أو في العزاب قلبي بربيه
علشان يآمن بربيه.
خدو من ايدو وطلع بره بيه
قالو شفيقة على البلكونه دِي
شاف اختو والعقل منو زل

حياتي العليه العيل م نزل
وبعت صحابو طلعو المنزل

متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
شفيقة افتكرتهم زباين
“تجعل أصحاب أخوها زباين!”
وقابلتهم على السلمات
وقالت: يا زباين سلامات
“عايزه تعمل للمسا لمات!”
واحد من صحاب أخوها سألها وقاللها:

قال إنت جميل وشغلت البال، لأديك
لو تطلب ورق بال اديك،
بس قوليلنا منين بالَديك؟
قالت: أنا مسكينة ودمعي بليني
وسنتين سكنه الفيلا دي
وفى الأصل جرجا بلدي.
صاحب أخوها عرفها وطار
بقى يبكى ويقول: يا ستار!
وجاب على الوسكي أوتار
“البت كان غايب وليفها
دي ناس دايره الدنيا ولفاها”
صب أول كاس ولافاها
شربتو وطلبت مزة، جابولها مزة
كان فى الشارع بياع تين
بيدور ومشي للي تانى دور
صب وناولها تاني دور
والكاس التالت صبلها
مرضيتش تشرب سب لها
ترفع العيون وتسبلها
صحابو سكروها ونزلولو
قالولو: قوم أقف على قدمك
الحظ اتعدل قدامك
والسكة فضية قدامك

يا متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
بسرعة متولي طلع فوق
يقول ولا حد معايا م تفوق
شوف السكرانة لما تفوق
وشافتو وفاقت من الخمرة
قالتلو: خدني وأتوب على إيدك
قاللها: يا شفيقة بعد ايه إتوبى
وتتمحكي وتقولي مكتوبي
دي رقعة ما تطلعش من توبي!
متولي دا راجل تقيل وساكن

متولي دا راجل تقيل وساكين
وراه بيبان البيت سكين!
أتى بالغضب وفِ إيدو السكين
وقال دي لو كان عليلة مين يزورها؟!
وجاه سريع تلف منظرها
وعزل الجثة من زورها

يا متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
وطلع البلكونه بسكنتو يقول:
جرحي في قلبي سكنتو
يا ناس وسعوا لي سكه انتو
لاقى الحكومة تحت البيت
يقلولو: انزل وتعالَ
قال: انتو حكومة البر طاب ليكم!
وأنا من فوق ما أطب ليكم
الله الي جاني طبليكم

“على ما بلغنا في الحادث”
هاودوه وجابولو الطبل ونزل
بعد ما تَلَف المنزل
شال العار وكلام العزل

متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
بسرعة حددولو جلستو نده القاضي
وقف قدامو قالو: بتموت شفيقة ليه يا متولي؟
قالو يا بيه أنا دمي فار! زى العَمَال
ومَع الإسود عَمل الفار عَمل،
وِحِدانا شجرة وفيها فَرع مال،
مفيش غيري لا عم ولا خال لي!
اشرب المرار ده والخل ليه؟
اقطعو يا بيه ولا اخليه؟
كان القاضي اسمو حسن
راجل عندو فضل وإحسان
قالو: صراحة قطعو أحسن!
يا متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي

قلو صراحه قطعه أحسن
اصل انته شريف وعملك شئ يعليك
ابدا مفي شيئ عليك
غير ست تشهور أشاعه ليك.
وخدهم سجنو رد للجيش
بعد ما كان دمعو يبل إيدو
قالو دا اللي شغل البال إدوه
صراحة شرف بلدو

متولي
يا جرجاوي يا جرجاوي يا متولي
يا جرجاوي

الهوامش:

1- البولك : ثكنه عسكرية يتم فيها التجنيد أو قد يقصد فيها سرية الجيش

2- شريطين هو رمز عسكري يدل على رتبة جاويش (وكيل رقيب): تركي، صوابه عندهم جاوش بضم الواو والعامة في مصر تنطقها شاويش وكان قديماً كالحرس أو الحاجب عند الحكام، ثم خص به في النظام الحديث بمن فوق الأنباشي رتبة وهي تسمية رتب الجيش المصري ف حقبة ما قبل الثورة.

3- باش جاويش (رقيب): تركي من باش بمعني رأس وجاوش أي رئيس الجاويشية ويكون تحت إمرته جاويشان وتحت كل جاويش عشرة جنود مما يحملون رتبت أونباشي (عريف): تركي مركب من أون ومعناها عشرة وباش ومعناه رأس والمراد به رأس عشرة أي أن لكل جاويش هنالك 100 جندي ولكل باش جاويش هنالك 200 جندي تحت قيادنه.
4- مسجد ومقام سيدي جلال السيوطي الواقع في مدينة أسيوط في مصر
5- خد من البك مالك: أي نشلوك والبك هي المحفظة والقصد سرقوا المال من محفظتك

شفيقة ومتولّي – عندما طردت الثورة النساء (2/ 1)

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail