حالة شاذّة

 

 

هيام أرض

أشكو من قرحة في الوقت وتشنّج في الذاكرة، والصديق الوحيد في هذه الحالات هو الويسكي بأسمائه المختلفة؛ فبغضّ النظر عادة ما تكون النتيجة واحدة: ارتفاع في الحرارة يصحبة هذيان. هذيان حتى الغثيان…

عادة ما يكتب الناس لنسج شخصيات ليست في عالمهم، لا مكان لها في عالمهم. قد تكون كابوسا يكتبونه ليقنعوا أنفسهم بأنه ليس ولن يكون واقعا، وقد تكون هذه الشخصيات حلمًا يتمنون أن يصبح حقيقة في يوم ما. وأحيانا تكون هذه الشخصيات كآبة تسكنهم ويريدون أن يتخلصوا منها فيسكبوها على الأوراق المبعثرة علهم يتبخرون حين تهبّ ريح صيفية فتأخذ الأوراق وتأخذهم معها.

أما أنا فلا أكتب لأيّ من تلك الأسباب؛ بل أكتب لتتكثف كلّ الأحاسيس في داخلي حدّ الغليان، لتقتلها أو تموت قبلها… لتصبح مولوتوف جاهزًا للاشتعال.

مولوتوف جاهز للاشتعال هو أفضل تجسيد لعلاقتي بها. فعلى مدار سنتيْن كان الفتيل هناك بين قدح النار والاشتعال في انتظار اللهيب الأول. أذكر ذلك اليوم الصيفيّ حين جلسنا. كانت قد وعدتني بأنها “ستقتلني” في لقائنا ذلك. وانتهينا على المقاعد المظلمة في عتمة المقهى وسكونه.

جلست على كرسيها بكامل تألقها وجاذبيتها وقد خلا المقهى من زبائنه على غير العادة. كانت الطاولة صغيرة جدًا؛ فبالرغم من أنني جلست على الجهة المقابلة لها كنت أسمع تفاصيل أنفاسها بينما أحرق نفسي بسيجارة تلو الأخرى، تعمّدتْ هي أن تستنشق دخانها بعد أن كنت أخرجه من زوايا رئتيّ، لا حبًا بي، ولكن اغراءً لموقف هامد لا يحتمل الاضافات.

“حليانه كتير. شو القصة؟ في حب؟”

“يمكن… ما بعرف. إنت شو رأيك؟”

“في حدا؟”

“آها.”

قلتها بخجل مع حركة طفيفة في الرأس تومئ بالايجاب.

“مين؟!”

بينما عدّلت هي جلستها كمن تتأهّب لاستقبال خبر بعد طول انتظار، وعيناها تنبئان بتوقعاتها ورغبتها بأن تسمع جواب واحد: “أنتِ”.

“وحدة ما بتعرفيها.”

“من وين؟”

“من جنين.”

رغم قمّة اللامبالاة، لا وبل تقصّدي بأن اقول لها وبكل الأشكال اللامباشرة إنّ هناك من صرعتك، هناك من أردتك قتيلة، هناك من سبقتك إليّ، فلست أنت المرأة الأسطورية القادرة على فتنة كلّ رجل وامرأة في الوجود؛ فهناك من حطمت صنمك ودمرت محرابك، فصلواتي لا ترتفع اليك. لست أنت ألهتي ولا مُلهمتي، لن أكتب لك يومًا قصيدة حبّ ولا حتى رثاء. لحظات قصيرة مرّت كالانتقام اللذيذ. لذيذ كان ذلك الأحساس بأنني أمسكتها في قبضتي كقطعة بسكويت هشّة أفتفتها بلذة غير مسبوقة، ثم أفتح قبضتي لألقيها مثل الرّذاذ. كانت لذيذة تلك اللحظات بقدر مرارة وحلاوة شفتيها.

لطالما أعجبتني رباطة جأشها، لكنها فاجأتني هذه المرة كيف لملمت نفسها بهذه السرعة لتباشر باستكمال أسئلتها كقنابل موقوتة.

“طيب هي محجبة؟”

“لأ.”

“يا خسارة!”

“ليش يا خسارة؟ ما انت دايما كنتي تعترضي على حجابي ومش عاجبك!”

“بس لو هي كانت محجبة كان بيزيد من وقت الـ foreplay.”

“ما تخافي علينا ما بنقصّر بكلّ الأحوال.”

“طيب شو؟ الموضوع جد يعني؟”

“ما بعرف… ما بتصور.”

“ليش؟ شو مشكلتك انت ما بتعرفي تستقري؟”

“لأ مش هيك القصه. بس أنا ما عندي أي شي أقدّملها اياه.”

“بس هي مش بالضرورة تكون منتظرة منك أي إشي. يمكن بيكفيها إنتِ.”

لفظت تلك الكلمات وكأنها آخر رمق يربط بينها وبين اللغات المحكيّة، وانهالت على الأرجيلة تحرق الفحم المشتعل، والتبغ المعتّق، وأنفاسها وأنفاسي…

“حبّيت انك بعدك لابسة الأسوارة من أسبوعين.”

“بلبسها كل الوقت، مش لأنها منّك، بس صدف إنها بتلبق على كل تيابي.”

رسالة قصيرة ما بعد اللقاء:

“شو اسم عطرك؟ غطّاني… عم بشمّوا و بحسّوا على كل جسمي وحواليّ.”

 

(نابلس)

 

عن قديتا

 

 

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail