رائد انضوني – المشهد يخترقه الحلم

للوهلة الآولى يعرض فيلم رائد انضوني قصة ” شخصانية ” محاولا استيضاح اسباب واعراض صداعه الذي يشغله طوال الوقت، وللوهلة الاولى يستثيرك السؤال وما علاقتي بصداعه، وبالدقائق الاولى ايضا يعكس نرجسية واضحة تبين ملامحها بحواره مع والدته التي تساله مباشرة: ” وشو خص الناس بوجع راسك؟ “.

من هذه النقطة يحمل الفيلم في طياته بعدا فلسفيا تحليليا محملا بالرمز الذي يحتاج للعديد من المفاتيح التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالواقع السياسي والاجتماعي، والتي لا يمكن دحضها لان الواقع الفلسطيني على وجه الخصوص مثقل بهذه التفاصيل المزدوجة وهذا الخليط، ويرتكز اعتماد العقل الفلسطيني في العديد من حالاته على حالة دفاعية، وتعريف جمعي في مفهوم الانتماء، ربما اتضحت ملامحه في فترات زمنية كالانتفاضة الاولى وفترة اجتياح لبنان، والتي عملت بدورها على الابتعاد عن الفردية الابداعية تحديدا، وهذا قدم تعريفا جدا مختزلا للعالم وللفلسطينيين انفسهم بان الفلسطيني هو البطل والثائر، مسميات ارتبطت بتحديده ووضعه تحت مسلكيات وصور يرفضها المخرج بما سماها الاطار، بالرغم من اقحامه لمساحة واسعة من الفيلم في مناقشة نظريات وحياة العام ١٩٨٧، ومن هذه العودة لهذا التاريخ تشير الصور احساس بتاكيد الانفصال الزمني بين اجيال متراكبة، ساهمت بخلق اجيال متناقضة في المفاهيم والتوجهات والمسلكيات، على انه من المفترض كواقع ومنطق ان يكون تتابع زمني وفكري وتربوي لكل جيل ياتي لاحقا. هذا التناقض اللامفهوم او المركب في اقل تقدير جعل هناك العديد من المسافات والمساحات الزمنية الغائبة، او الانقلابية، وخلق تاريخ فلسطيني مختلف وخاص مرتبط بالاحداث المغيرة للمنظومة والمفاجئة في الان نفسه لمنطق الواقع، تواريخ لا تعد ولا تحصى جيل الانتفاضة الاولى، واجتياح بيروت، ايلول الاسود، النكسة، والنكبة…. الخ، نرى ذلك في حواره مع الماضي، ابناء جيله، والعمق النظري المختلف والمتحول مقارنة مع ابن اخته الشاب الصغير الذي يدرس ويعيش خارج الوطن، هناك تسطيح في البنية الفكرية والاجتماعية للاجيال الجديدة بالرغم من الاتفاق السياسي الضمني مع اجيال سبقتهم. تسطيح يعود للتجربة والتحولات والوعي، جاء كل ذلك عبر اسلوب التكثيف ما بين احداث اقتصرت على الفعل اليومي المتكرر بالعادة والشخصي الخاص، المرتبط بالعائلة والاصدقاء كبيئة محدودة ارتكزت عليها عناصر الفيلم، جاء ذلك في بدايات الفيلم واثر التكوين العائلي على الفرد، وكذلك في اواخر الفيلم حينما اوصل ابن اخته للحدود للعودة مكان اقامته خارج الوطن، مفارقة رسمت ملامح مهمة لجيل مختلف في التكوين الذاتي ونظرته للمكان والوطن، وطبيعة الحوار الذي دار ببنهما في الطريق، انتماء لا يخلو من التفاوت المعرفي الاسري، واذ لا يلغي ذلك امتداد هذه النظرية والحياة على المستوى الاكثر شمولا لتشمل الانسان في اي مكان.

يشكل الفيلم حالة مترابطة محورها المخرج نفسه، هذا من حيث الشكل، الا ان المضمون اكثر تفاوتا ومتارجحا ويطرح العديد من التناقضات الفكرية التي اعتاد عليها، وبين المكتسبات الفكرية الشخصية والاكتشاف بعد التحرر الذاتي من المجتمع والبحث عن النفس … التميز، وفي اعادة النظر للهيكلة الذاتية للمخرج والنظر لواقعه ونفسه من نقطة رؤية مختلفة نجد انه وقع فريسة هذا التركيب، لكن استطاع الحفاظ على نفسه من خلال الاعتراف بالمشكلة، الاعتراف بالمشكلة يعني علاجها، ومن خلال العلاج بدات تظهر الاسئلة في اعادة تفعيل الذاكرة، وعلاقتها ايضا بتهيئة الصراع الذهني لديه بالتقصي عن الحقائق التي نسيها او تجاوزها لاسبابه الخاصة، اذ يحاول الاخصائي النفسي معرفة موروث وذاكرة هذا الشخص، اعادته لنفسه، نظرة اجتماعية طبيعية، لا تخلو من المناكفات والاختلافات والرفض، اعادته لنفسه من الناحية النظرية، بينما يقوم المخرج نفسه بالخروج من هذه المنظومة والغوص في البحث عن المرادفات الواقعية، العودة لاحداث ومفاهيم لم يكن يتذكرها، ويستعين بالاخر لتذكيره بها، وما سبب هذه الالغائية المحدودة للذاكرة في بعض مواقعها، الا لانها تنسجم مع رؤيته بان ” الابداع له علاقة بالملل، وهو جزء من مولدات الابداع” ما يعني ان هناك مساحات فارغة للملل في حياة انضوني بالمفهوم الايجابي، الخواء الاجتماعي والتركيز في مشروع شخصي يهيمن به على المسافات التي توقفه في هذا المكان، هي التي تعود لاهم نقاط الصراع في بناء هذه الصورة التراجيدية لهذا الفعل. ومن الاسباب الاخرى التي دفعته للعودة الى البحث عن اسئلة وجودية ومستفزة في الان نفسه والتي كان يجب ان يسالها في زمن اخر وعمر اخر، هو الافتقاد لمساحة زمنية حقيقية مضت دون فعل حقيقي، لتترك فراغا ومللا لدى المخرج بحكم السجن في فترة كان من الواجب ان يشق طريقه للمعرفة وامور اخرى، هذا الفراغ الزمني اعاد للمخرج التفكير في تاصيل التجربة وربط الزمانين المنفصلين لديه، قبل السجن وبعد السجن، مصطلحات استخدمها المخرج في العديد من حواراته دون انتباه الوعي ربما للمصطلح، لانها موجودة اصلا ولكن بدون التفاصيل، موجودة من حيث التعريف الزمني لها، وبهذا وضع تاريخا شخصيا له قبل السجن وبعد السجن، واستكمالا لرؤية انضوني واسئلته المستفزة اعيد عليه سؤالا وجوديا، اين الزمن الذي بين زمانك؟ قبل وبعد السجن، هل صار ملغيا؟ ام انه يعتبر المحرك الاساسي في البحث عن اسباب الصراع وطريقة علاجه؟ مع ان العلاج لا يهمني لانني شخصيا غير واثقا بقدرتها على شفاء العقل من الاسئلة الدائرية والتي لا تتوقف، وانما ستشكل فتيلا اخر لصراع زائد عن الحاجة.

سينما رائد انضوني هي من الانواع الرمزية الفوضاوية، جاء ذلك من خلال عدة اشكال، بناء النص التلقائي، بعيدا عن الدراما المفتعلة، وقليلا من الاعتماد على المؤثرات الشاعرية، والانتقال من حالة مرض مزمن لبحث في تفاصيل زمنية متفاوتة ومتنقلة دون الاعتماد على التسلسل، واثارة الاسئلة بدون اجابات نظرية عليها، بل كانت اجابة السؤال بسؤال اخر، اما في اعتماده على الصورة فتمحورت بين التوثيق المرتجل وبين بناء مشاهد بصرية تكفي لان تنقل ايقاع الحياة كالتي تصوره وهو واقف يتنزه على جملة ” مستوى سطح البحر” دون بحر، او اثناء التنزه تحت الجدار. وفي تقديري هذا المشهد الصامت يحمل قيمة تعبيرية رمزية عميقة في فهم حجم التناقض بين الواقع والحلم والمتاصل بظروف معقدة من الصعب ان يتصورها عقل بشري، مشهد بصري فنتازي ركز على حجم التعقيد العنصري الاسرائيلي، يمكنك مشاهدة هذه الجملة مثلا دون ان تصل البحر، الجملة المكتوبة في طبيعتها حقيقية، في حين ان المشهد كله مخترق بالاحلام التي يجب ان لا تكون معقدة لهذا الحد

 

منذر جوابرة

Facebooktwitterredditpinterestlinkedinmail